د. جمال علي عاشور
في لحظة سياسية يختلط فيها القديم بالجديد، أعلنت الولايات المتحدة ما يشبه رفع الغطاء الرسمي عن جماعة الإخوان المسلمين في بعض الدول العربية. ليس الحدث في القرار ذاته، بل في ما يكشفه من تحوّل أعمق: نهاية مرحلة كان فيها الإسلام السياسي ورقة ضغط أمريكية، وبداية اصطفافات إقليمية جديدة تُعيد رسم خرائط النفوذ.
القرار ليس أخلاقيًا، ولا مفاجئًا؛ إنه ببساطة إعلان انتهاء صلاحية دورٍ استُخدم طويلًا في لعبة أكبر من الجماعة ومن خصومها معًا أولًا: تفسير الفقرة. الفقرة تمهّد لأسئلة جوهرية تُثار عند صدور قرار أمريكي بتصنيف “الإخوان المسلمين” (في دول عربية محددة) كجماعة إرهابية.
السؤال ليس عن القرار نفسه، بل عن السياق: لماذا الآن؟ لماذا تتخلّى واشنطن عن من حمتهم عقودًا؟ ولصالح من يتم هذا التحوّل؟
الأسئلة المُضمَنة في النص تُشير بوضوح إلى: أن الإخوان جماعة ذات تاريخ طويل من التقلّبات والارتباطات العابرة للحدود. وأن الدعم الخارجي—الأمريكي والتركي والقطري سابقًا—كان جزءًا من توازنات سياسية لا علاقة لها بالأيديولوجيا. وأن القرار الأخير يكشف تحوّلًا بنيويًّا في مصالح الولايات المتحدة.
ثانيًا: نقد الإخوان – نقدي صريح
الإخوان المسلمين لم يسقطوا لأن واشنطن تخلّت عنهم؛ سقطوا لأن مشروعهم في ذاته متناقض، مُلتبس، ويدور حول السلطة لا حول الإنسان. جماعةٌ أسّست خطابها على الطهرانيات، لكنها في الواقع اشتغلت دائمًا بلغة الصفقات.
رفعت شعار “الإسلام هو الحل”، لكنها، حين اقتربت من الحكم، عجزت عن تقديم أي حلّ سوى إعادة المجتمع إلى “الطاعة”.تمتلك قدرة استثنائية على لعب دور الضحية والمظلومية، حتى لو كانت هي الطرف الأقوى تنظيمًا وتمويلًا.
تؤمن بالشورى عندما تكون خارج الحكم، وبالسمع والطاعة عندما تقترب منه. نجحت في استثمار الدين سياسيًا، لكنها فشلت في بناء مشروع مدني، ديمقراطي، أو حتى واقعي. الإخوان جماعة تنظيم مغلق أكثر من كونها حركة فكرية. وكل تنظيم مغلق، في لحظة ما، يصبح عبئًا حتى على رعاته.
ثالثًا: نقد الولايات المتحدة – بصراحة
الولايات المتحدة لا تُصنّف أحدًا إرهابيًا لأنها اكتشفت فجأة “خطر الإخوان”. أمريكا تعرف الإخوان أكثر مما يعرف الإخوان أنفسهم. القرار لا علاقة له بالأخلاق، بل بـ الوظيفة. الإخوان كانوا ورقة ضغط—ونهجًا قابلًا للاستخدام—في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”.
وعندما تغيّرت خارطة التحالفات في الشرق الأوسط (السعودية، الإمارات، مصر، إسرائيل)، أصبحت ورقة الإخوان محروقة أو على الأقل غير مربحة. واشنطن ببساطة انتقلت من “استثمار” الجماعة إلى “التخلّي عن الاستثمار”. الولايات المتحدة لا تُبقي حليفًا إذا لم يعد مفيدًا، وهي ببساطة تعترف بقانون: “المصلحة أولًا، والباقي تفاصيل”.
رابعًا: نقدي لإسرائيل – بشكل مباشر
إسرائيل ليست في هذا المشهد مجرد متفرّج. هي المستفيد الأكبر من تفكك المنطقة أيديولوجيًا وسياسيًا واجتماعيًا. الإخوان سوّقوا أنفسهم كجماعة “مقاومة” بينما كانوا دائمًا يدخلون في مساومات ضمنية، ولا يقتربون جديًا من مواجهة بنية الاحتلال. وجود إسلام سياسي منقسم، وصراعات بين أنظمة عربية والإخوان، يعني مزيدًا من إضعاف الدول العربية، وهذا يخدم إسرائيل.
إسرائيل تُفضّل دائمًا: شرق أوسط مشرذم، تتصارع فيه الأنظمة مع الإسلاميين، والإسلاميون مع العلمانيين، والعرب مع بعضهم، والناس مع أوطانهم..كلما ازداد التشظي، ازداد “الأمان الإستراتيجي” لإسرائيل.
خامسًا: رأيي الشخصي؛ القرار الأمريكي ليس “مفاجأة”، بل إعلان رسمي لنهاية مرحلة كان الإخوان فيها أداة ضغط إقليمية. والولايات المتحدة لا تتخلّى عن أحد لأنها اكتشفت فجأة أنه سيّئ؛ تتخلّى عنه عندما يصبح أقل نفعًا وأكثر تكلفة.
أما الإخوان، فمشكلتهم ليست أنهم ضُحايا واشنطن، بل أنهم قضوا عقودًا يلعبون لعبة أكبر منهم، وظنّوا أن “التنظيم السري” يستطيع مجاراة الإمبراطوريات. وإسرائيل، كالعادة، تعرف كيف تقرأ اللحظة، وتستفيد من كل انقسام عربي، ومن كل مشروع سياسي قائم على الغموض العقائدي وازدواجية الخطاب. بكلمة واحدة: ما يحدث ليس عقابًا للإخوان، بل تصفية حسابات بين القوى الكبرى، والإخوان—كالعادة—وسط النار، لا أصحابها.
