خريستو المر
إلى علي…
عندما وضع «نعمة الله» هاتفه وجلس على الكنبة بالقرب من زوجته وأولاده الثلاثة، ابتسمت له زوجته وقالت أشياء لا نعرفها، نعرف أنّها وافقته وسلّمت أمرها لمدبّر الدنيا. «لن نترك بيتنا. هذه أرضنا ولن نتشرّد منها. نحيا عليها أو لا نكون» قال «نعمة الله» لأخيه عليّ على الهاتف، فأكل القلق الأخير.
بيت «نعمة الله» وزوجته ليس بيتاً عاديّاً. مجبول هو بالأحلام والحبّ اللذين يعجنهما كلّ حبيبين حقيقيّين لكي يضيئا في هذا العالم زيتونة مباركة لا شرقيّة ولا غربيّة، تتوسّط الدنيا فتضيء وتُهدي مَن يشاء أن يرى. فنعمةُ الله تجبل الرجلَ من تراب امرأته، وتجبل المرأةَ من تراب رجلها، لتضيء وحدتهما الإنسانيّة في وجهين، ويُتَوَّجا كلاهما بالحبّ الذي به يرى واحدُهما الآخرَ نفسَه فيحبّه كنفسه. هذا هو السرّ الكبير الذي يجعل الواحد لباسَ الآخر، فيغدو الحبّ هكذا آيةً للذين يعلمون أنّ الحياة جسدٌ من مودّة ورحمة يُسكِنُ ظمأ القلب إلى الرحمن.
بيت «نعمة الله» وزوجته ليس حجراً وإنّما لحم الأرض التي تصبح روحاً بالحبّ، وخمرة تُسكر الروح في صحو الجسد. ولذلك لا يُهدم البيت إذا ضربه الغزاة وهدموه ثمّ قالوا «هدمناه»؛ فما هدموه وما خربوه، ولكن شُبّهَ لهم، فما يمكن لإنسان أن يهدم الحبّ الذي جعله الله بيتاً وضوءاً للحرّية. ولا يرى الذين حقدوا ضوءَ الحرّية المشعّ من الأجساد حين تصبح رمزاً يقول «لا». فالـ«لا» هو الرفض الذي به تبدأ معموديّة الأحرار الذين يبتغون وجه الله، ولذلك يبتغون كرامة بناته وأبنائه كي تنطق الأرض بالعدالة، أي بالسماء، وتجمع المتفرّقين إلى واحد.
لهذا، جلس «نعمة الله» مع زوجته وأولادهم اليافعين الثلاثة وابتسموا معاً، وصاروا كلمةً طيّبةً كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وحين جاء الغزاة بالحديد والنار والتمع المساء، غدوا كلمات تقول «لا» ونبتوا شهادة للحقّ في ضمير الذين إذا رأوا مصيبةً هدّأوا قلوبهم بالحقّ المبين، وذاك هو الفوز العظيم؛ فبالحياة التي تغدو كلمات تولدُ البشارةُ في النفوس الكريمة التوّاقة إلى الحقّ الذي يحرّر.
بعد ثلاثة أيّام جاء دور إسماعيل. وإسماعيل الشاب صغير أخواته وإخوته. نما من أحضان أخواته وأكتاف إخوته إلى السماء التي تمشي على الأرض. وإسماعيل إنسان صادق الوعد بالحبّ المبذول حتّى الشهادة: «حياة بلا حرّية وكرامة ليست بحياة». هكذا قال، وهرول صاعداً إلى أخيه «نعمة الله» حين رمى وحش الحقد نيرانه على الطراوة التي تمشي بيننا منذ آلاف السنين.
في أرضنا باتت الأجساد نوراً للذين يفهمون حكاية ذاك الذي صعد خشبةً منذ ألفي عام ليَغلِبَ العالم. ولذلك بكى عليّ كما ينبغي أن يبكي، وهدأ كما أحبّ أن يهدأ، ليبشّر مع صحبه من جديد بقيامة الذين انتصروا من بعد ما ظُلموا، أولئك الذين بذلوا حياتهم ليُخرِج الله بهم محبّيه من الظلمات إلى النور. أولئك هم الحرّية التي تكلّمت بيننا.
عن جريدة الاخبار
