سجل في القائمة البريدية

Edit Template

السينما على رائحة شواء شاهين: شرق 12

د. وليد سيف

يفرض التصدى لأفلام من نوعية شرق 12 قدرا من الحذر، فتلك الأعمال التى تهدف إلى التجريب بمعناه الواسع أى تقديم تجارب جديدة فى الأساليب السينمائية وتقنيات جديدة للتعبير الفني، مما يمثل خروجًا عن الأساليب التقليدية والمألوفة سعيًا وراء إيجاد حلول فنية مبتكرة وغير تقليدية. لتحقيق أهداف فنية مختلفة، أما التجريب بمعناه البسيط فهو أن يجرب المخرج نفسه أدواته للوصول إلى أسلوب يعبر من خلاله عن رؤيته، وتظل العقبة فى مواجهة هذا النوع هو صعوبة قراءتها من منظور تقليدى أو وفقا لقواعد النقد المتبعة فى غالبية الأحوال.

هذا هو الفيلم الثانى لمخرجته هاله القوصى، عرض فيلمها الأول منذ سبع سنوات بعنوان زهرة الصبار، وكنت أرى به بعضا من الأمور الإيجابية، سواء من خلال أسلوب الحكى أو اتساق الحكاية الى حد ما مع ما حفل به العمل من تجريب أو تغريب، لكن التصدى لفيلمها شرق 12 هو الأصعب من وجهة نظرى، بعيدا عن النظر إلى أنه من أفلامنا النادرة التى أتيح لها المشاركة فى مسابقة نصف شهر المخرجين بمهرجان كان السينمائى الدولى.

أول ما يمكنك أن تلاحظه فى هذا الفيلم هو التأثر بأساليب يوسف شاهين، فلا انشغال بالتأسيس أو التعريف المبكر بالشخصيات فى مقابل الانشغال بالصورة على حساب الموضوع، كما يلوح ذلك أيضا عبر شخصيات بعينها تتشابه أو تتماس مع شخصيات شاهينية مثل شوقى- أحمد كمال الطاغية المتلون الأقرب لطلبة المدبولى فى عودة الإبن الضال، أو غريمه أو من يرغب فى مواجهته عبده- عمر رزيق الأشبه بعوكا فى اليوم السادس العاشق للفن والمحب للحياة والساعى للتحقق.

لا توجد ثمة حكاية يمكن سردها او تلخيصها لكنه عرض لحالة ومشاهد تدور بين مجموعة من البشر خارج حدود الزمان والمكان وفى واقع فى غاية الفقر والبدائية فى مواجهة مجموعة من الأشرار والفاسدين المسيطرين على كل شىء والمتحكمين فى الأرزاق وبين الجانبين امرأة عجوز- منحة البطراوى- تتواصل مع كليهما وان كانت تميل للمساكين وتسعى لمساعدتهم قدر استطاعتها بقلب حنون.

يمثل عمر رزيق شخصية عبده الاقرب للخصم للبطل الشرير دون مواجهة حقيقية او صراع واضح أو فعل من أى نوع ربما يتفق هذا واقعيا مع التأثير الذى يفرضه شوقى ورجاله، فهو يزرع الخوف فى القلوب بل الرعب، لكن هذه المسألة تجعل الفيلم يفتقد لأى فعل أو حدث حقيقى أو موقف يخرج هذا الصراع المستتر إلى السطح حتى تتتضح الصورة ولو بأقل قدر، ولذا تضطر المخرجة المؤلفة إلى تكرار المشاهد والمواقف بل واللقطات بعينها كى تملأ فراغ الفيلم مع غياب الموقف والحدث.

لا شك أن الصورة تتميز عموما بمحاولة صنع كادرات معبرة غير تقليدية يتسع مجالها وعمقها كثيرا مع المحافظة على توازن الضوء والصبغة القاتمة اتساقا مع الموضوع أو الأجواء أو تحقيق تأثير ما على الرغم من انعدام الثراء على المواقف وهو جهد كبير بذله مدير التصوير عبد الحليم موسى خاصة وأن معظم مشاهد الفيلم بالأبيض والأسود باستثناء لقطات ومشاهد محدودة، ولا شك أن هذا الأسلوب أضفى مزيدا من التغريب والتجريد على صورة الفيلم وواقعه.

فى رأيى أن المبالغة فى التجريد تضعف من فن السينما وقد تكون أنسب لفنون أخرى مثل الفن التشكيلى حيث الصورة الثابتة أما الصورة المتحركة والزمن المتغير كما هو الحال فى السينما فيفقد عمقها المعنى والدلالات وتظل الصورة أقرب للجمود والفقر ولا تمنح عناصر الفيلم مجالا للإبداع ليس على مستوى الصورة فقط ولكن على كل المستويات وخاصة التمثيل.

على الرغم من أن الفيلم يضم ممثلين مخضرمين مثل أحمد كمال إلا انى لم أجد فيما يقدمونه ما يمنحهم مجالا للتعبير أو حتى التشخيص ببساطة، وهو ما فرض على المشاهد طابعا ثابتا، بل وأفقد الممثل القدرة على رسم شخصية والحفاظ عليها وهو ما بدى واضحا مع الممثلين محدودى الخبرة وبوجه خاص الشاب عمرو رزيق الذى ظهر فى بعض المشاهد بصورة الواثق قوى الشخصية المؤثر بينما ظهر فى مشاهد أخرى كصبى مراهق ضعيف الشخصية دون أى مبرر أو حدث يدفع إلى هذا التغيير

وهو أيضا لم يقنعنى بأى حال بأنه يلعب شخصية فنان حقيقى طموح لديه موهبة ورغبة فى تحقيق الذات وهو ما تجلى فى المقارنة التى وقعت بينه وبين شوقى، فشوقى الذى يسيطر على كل شىء بما فى ذلك الإعلام أو المتعة والترفيه من خلال ما يسميه بالفيزيون يقدم عرضا رديئا ركيكا لكن عبده يقدم أيضا عرضا لا يقل رداءة.

أرى ان الركاكة لا تتمثل فى الأغنيات فقط بل فى الحوار أيضا الذى تشوبه السذاجة خاصة مع شخصية العجوز التى تلقى ما يمكن اعتباره حكم أو أقوال مأثورة لكنها بلا معنى أو قيمة، مع أن حواراتها كانت فرصة لإعطاء ثقل للفيلم بطرح جمل بليغة ذات دلالات تعبيرية عميقة بينما جاءت الكلمات أقرب لكتابات الهواة والحقيقة أن هذا الجانب يشبه كثيرا جوانب الضعف فى أفلام يوسف شاهين حين يستخدم جملا من المفترض أن تحقق تأثيرا قويا على الجموع مع أنها شديدة السذاجة كما رأينا فى فيلم وداعا بونابرت حين يلقى الشاب الشاعر هتافه المتواضع فى مواجهة الحملة الفرنسية “مصر حتفضل غالية” عليا فيثير حماس الجماهير.

كان على المخرجة أيضا أن تكون أكثر حرصا على أن تجعل من مشاهد الرقص ممتعة بأداء تعبيرى بارع بينما جاء مشهد الرقص بين البطل والبطلة رتيبا مفتعلا متكرر الحركات، فى هذا يختلف الفيلم كثيرا عن سينما يوسف شاهين التى تميزت بتوظيف الأغانى والرقصات بإبداع شديد وفى خدمة المضمون الدرامى حتى ولو أخذت الشكل الفانتازى كما رأينا فى أغانى واستعراضات عودة الإبن الضال.

على أى حال سوف تبقى فى الذاكرة على الأقل لقطات النهاية التى نرى فيها الشخصيات ثابتة فى البحر، لا تجروء على الحركة بينمل تتحرك المياة بين أقدامهم، نهاية قوية وموحية وإن شابها التطويل، كما أنها كانت فى حاجة إلى حدث أو موقف أو حوار سابق يعزز المعنى ويؤكد عليه، ويبرز فكرة العجز الكلى لدى الشخصيات، وذلك حتى لا يصبح التفسير ليس مجرد اسقاط وإنما تأكيد على معنى نابع من روح الفيلم ومن شخصياته.

على الرغم من أى سلبيات أراها فى الفيلم إلا ان نجاحه فى المشاركة فى مهرجان كان يعد حدثا سعيدا، ولا مانع بالطبع من أن تواصل المخرجة مسيرتها مع التجريب، فليس من حقى المصادرة على عملها الذى أعجب الكثيرين، لكنى أرى أن الاحتفاء بالفيلم الذى يحمل بعضا من رائحة يوسف شاهين يجعلنا أشبه بالفقراء الذين يأكلون الخبز على رائحة الشواء.

عن جريدة القاهرة

Post Views5 Total Count

تصفح المواضيع

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Ethical Dimensions in the Digital Age

The Internet is becoming the town square for the global village of tomorrow.

الأكثر قراءة

هاشتاغ

عن زيتون نيوز

زيتون نيوز موقع اعلامي صادر عن مركز رام للدراسات العربية. مختص بالشؤون العربية في كندا، بالاضافة الى الاهتمام بأهم القضايا في الوطن العربي. وهو موقع مهني تشرف عليه الصحفية تغريد سعادة التي تعمل في الصحافة لما يزيد عن عقدين من الزمان.
يقع المكتب الرئيسي في مدينة ادمنتون / ألبرتا. ويعمل على تقديم تغطية شاملة، لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعرب في كندا. 

آخر الأخبار

  • All Posts
  • About Us
  • English News
  • أخبار
  • تحقيقات
  • ثقافة
  • شؤون الجالية
  • شؤون عربية
  • لقاءات
  • مقالات
  • منوعات
    •   Back
    • About us

أقسام

 Zaytoun News © 2024

error: Content is protected !!