سمر نور
تصرخ الشاعرة والقاصة الفلسطينية فداء زياد ضاحكة من قلب غزة المكلومة، تطلق فداء صرخاتها عبر السخرية والدعابة في زمن الحرب، يمكن أن يكون ذلك عنوان كتابات الشاعرة فداء على مواقع التواصل الاجتماعي تواسينا وتنزع عن المأساة سطوتها، غرة تلك المدينة الأكثر قرباً من مدن مصر ليس فقط بواقع موقعها الجغرافي، ولكن بحس الفكاهة عند أهلها رغم المعاناة، فهل يمكن اعتبار ذلك مقاومة أم طبيعة الشخصية للكاتبة والمدينة ؟
أكتب حتى أنجو!
تقول فداء ربما كان التقديم الخاص بي عبر صفحتى على الفيس بوك هو الوصف الذي ما زال، ولكنني أحاول بدافع الكبرياء أن أسخر أكثر مما أحزن، وكنت أقولها، صعب أن تكون غزاوياً، وثقيل الظل في نفس الوقت يعنى الحياة الثقيلة لا تستحق أن تزيدها عبر اختزالها في الألم والحزن، ولأننا نعرف أثر الحزن فلا نستطيع أن نقدم صورة الحزن كصورة أبدية، لا بد من السخرية من فعل الواقع العبثي كل هذه الظروف مهمتها أن تصقل بداخلى روح السخرية من كل العوالم التي تريد أن تلغيك كم من مزحة سمجة قررها العالم حين قرر إنقاذ الحمير في غزة في زمن الحرب بحجة استغلالها بالأشغال الشاقة. بينما رضي للإنسان القتل وإبادة ذاكرته العالم الذي يحزنه الحمار، ولا يحزنه قتل إنسان أعزل في بيته ومحو ذاكرة موطنه عبر مسح المدينة، ألا يستحق أن تخرج له لسانك ساخرًا. برأيی إنه فعل شخصي تصقله الظروف ليتحول إلى فعل مقاومة حقيقية.
منذ عامين تحت القصف والنزوح المكرر، لم تتوقف «فداء، عن الإبداع بل عن التأريخ الاجتماعي لغزة المقاومة تقول عن ذلك، “تختبر الإبادة فيك فعل الهوية، والهوية وفق تعريف محمود درويش، في نص ، (أنت منذ الآن غيرك):
” الهوية هي ما نورث، لا ما نرث،” فيتحول الأمر من رفاهية المجاملة إلى حدود المسؤولية المسؤولية لب فعل الحكاية، الذي تستند إليه صورة الهوية الفلسطينية، فالفلسطيني بطل حكايته، ولا يمتلك إلا فعل الحكاية ليحكيها، ربما في البداية ظلت الكتابة مؤشر إجابة عن سؤال الآخرين، كيف حالك؟ فكانت الإجابة أن أكتب نصًا عبر الفيسبوك، فيعرف الجميع أنني ما زلت على قيد الحياة، فيصير الأمر دليل نجاة، فصرت أكتب لأنجو، وأنجو لأحكي حكايتي، والحكاية إجابة السؤال: كيف تعيش المرأة العادية حربها في غزة؟ هذا السؤال كيف حالك؟ كان عرض الحرج والخجل للكثير من الأصدقاء. فكنت أدفع عنهم الحرج بأن أكتب فيطمئن الجميع بأنني بخير. الآن مسؤولة عن كل التعريفات التي تخصني وتخص المحيط من حولي الحكاية الجوع النجاة الخوف.
ربما قبل الحرب كان الجوع مثلاً فعلاً اختيارياً أختبر به شهوتی وحاجتي بأن أمتنع عن السكر والخبز، كنت أجوع نفسي، لكن الجوع في الحرب هو كما عرفته بالكتاب “أقسى اختبارات الحكاية”، أنت مجبر بأن تبقي جسدك حياً فتأكل خبرًا كنت مقاطعه، إذ لا خيار أمام جسدك سواه. ومع ذلك قطعوه أو ربطوه بصورة الموت والدم، فأنت أمام المعاني المشوهة تكتب وتوثق ولا تبحث عن دهشة القارئ رغم الحرب.
صدر لفداء، أول ديوان لها بالعربية واليونانية تحت عنوان: “تركت وجهى فى المرآة”، قبله شاركت في عدد من الكتب الجماعية عن غزة من بينها كتاب “مسافة صفر”، مع مجموعة من كتاب فلسطين العام الماضي، والذي أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية، لتقف بين نزوح وآخر تتذكر غزة التي عرفتها يومًا، وغزة التي صارت الآن وتقول: ما الذي يمكن أن نفعله في زمن الإبادة سوى النزول عن عرش الرفاهية وامتلاك حدود المسؤولية .. كيف؟
لا أحد ينكر أن مديح الظل العالي لـ درويش، هي فعل التأريخ الحقيقي المأساة حرب 1982 بلبنان، ومجازر الاحتلال في صبرا وشاتيلا والمخيمات الفلسطينية، فالتاريخ يكتبه المنتصر، والأخبار يقولها السياسي، بينما الفن تقوله الضحية، ونحن ضحية هذه الوحشية في عالم لا يكف عن الإغفال بالاعتراف بحقنا، حقيقة الفن بأنه صوت الضحية ودليل إدانة.
تواجه فداء الموت بالسخرية و بالإبداع أيضًا، وتساعد أخريات على ذلك من خلال العمل مع الفتيات والنساء في غزة، وتصف ذلك “هو مشروع ذاتي أمشى من خلاله لأبحث عن دلالة انعكاسي فيهن عن السؤال الذي يدور في أذهاننا فلا تجد إجابات لأننا لا نمتلك الإجابة أصلا، فقدت بيتي وصديقتي وعائلتها، وبعض أفراد من عائلتي وخالتي ومدينتي، والكثير من الأصدقاء والجيران، وبات السؤال: كيف تمضي امرأة يومها بعد كل هذا الفقد اختبرته على نفسي من خلال الكتابة كأداة إسعاف نفسي بالنسبة إلي أتخلص من هواجسي بأن أكتب، فحاولت أن أنقل تجربتي مع النساء من خلال تنظيم جلسات حكي للنساء الفاقدات أستشعر من خلال الجلسات بعض الأفكار المتعلقة بمقارنة الخسارات. مثلاً كثيرات من فقدن لم يودعن المفقودين، كثيرات جرفت قبور فاقدينهن. كثيرات لم يتجاوزن الصدمة بعد، كثيرات يرين في ذلك قضاء وقدر. كثيرات فقدن فرداً واحداً، وأخريات فقدن العائلة. إذن نحن في جلسة الحكي “نطبطب” على وجع الفقد البشع مع النساء ما فوق الثامنة عشر يشاركن القصص عبر تسجيلها معي ليتم العمل على توثيقها في كتاب يقيس أثر الفقد على النساء بغرة، والجزء الآخر اختبار فعل الكتابة مع الفتيات للتعبير عن المفقود كاداة إسعاف نفسي أولى تعين المرأة على أن تحكى، فمصدر الحكي الأبدي هو النساء.
عن جريدة الأخبار المصرية
