تغريد سعادة
في السنوات الأخيرة، لم تعد القضية الفلسطينية مجرد صراع مع الاحتلال، بل تحولت إلى صراع داخلي لا يقل قسوة. فبين سلطة تصارع للحفاظ على مشروع وطني وشرعية دولية بقيادة حركة فتح، وحركة تحكم غزة بمنطق القوة وتقدم نفسها باعتبارها صوت المقاومة الوحيد ممثلة بحركة حماس، وجد الفلسطيني نفسه ممزقا بين رؤيتين، خصوصا بعد أحداث السابع من أكتوبر التي كشفت حجم الشرخ وأعادت طرح سؤال الهوية والاتجاه.
لم يعد الانقسام الفلسطيني انقساما سياسيا فحسب، بل أصبح معركة على معنى المقاومة ومعنى الوطنية. فالمشهد العام اليوم لا يمكن فهمه عبر ثنائية “مع أو ضد”، لأن القضية تحولت إلى ساحة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية، وتتداخل فيها الحسابات الحزبية مع آلام الناس اليومية. وبينما تبدو الصورة للبعض بسيطة: “مع حماس” أو “مع السلطة وحركة فتح”، فإن الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير.
منذ سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007، تحول القطاع إلى ما يشبه “الملكية الخاصة” التي لا صوت يعلو فوق سلطتها. قمعت المعارضة، وجرى اضطهاد كل من حاول نقدها أو محاسبتها، في وقت عانى فيه الناس من حصار خانق دفع ثمنه الفقراء والناجون وحدهم.
والمفارقة أن إسرائيل التي حاصرت السلطة الفلسطينية ماليا وسياسيا في الضفة الغربية والقدس، ومنعتها من حقوقها في الضرائب، هي نفسها التي سمحت بمرور ملايين الدولارات شهريا إلى حماس عبر قطر. قد يبدو الأمر متناقضا، لكنه من صميم سياسة إدارة الصراع، تقوية طرف على حساب آخر، وتضخيم “عدو” مفترض في الإعلام، مع منع أي مسار سياسي قد يقود إلى تسوية أو اعتراف بالحقوق الفلسطينية.
أحداث السابع من أكتوبر لم تحدث صدمة فقط، بل كشفت حقيقة كانت مخفية خلف الخطاب الحماسي والشعارات. وأعادت إسرائيل احتلال أكثر من نصف قطاع غزة، واستشهد الآلاف من المدنيين، ودمرت البنية التحتية على نحو غير مسبوق.
ووفق خطة ترامب التي وقعت عليها حماس نفسها، تخلت الحركة عن نحو 58% من مساحة القطاع ضمن تفاهمات سياسية وأمنية، مساحة تتوسع خسائرها يوما بعد يوم.
وفي المقابل، واصلت السلطة الفلسطينية عملها الدبلوماسي في الأمم المتحدة، دفاعا عن الشعب كله، مستندة إلى مشروع الاستقلال الذي أطلقته منظمة التحرير عام 1988. ورغم ضعفها المالي ومحاصرتها سياسيا، بقيت متمسكة بخيار الدولة والحماية الدولية، دون أن تقدم دم الفلسطينيين قربانا لمكاسب حزبية.
تتخبط مواقف حماس بين رسائل تطلب فيها دعما أميركيا للحفاظ على سلطتها، ومواقف أخرى تتظاهر فيها بأنها براغماتية مستعدة لتقديم تنازلات للمجتمع الدولي. لكن القاسم المشترك بين كل هذه التحركات هو التشبث بالسلطة، حتى لو جاء ذلك على حساب الشعب.
وليس سرا أن الحركة استفادت لسنوات من مشروع الإخوان المسلمين، ومن تمويل وإعلام مكثفين، خصوصا خلال فترة الربيع العربي، حين راهن البعض على تمكين الإسلاميين باعتبارهم “القوة الجديدة”. لكن التجربة الفلسطينية أثبتت أن هذا الرهان كان فخا أضر بالقضية أكثر مما خدمها.
ورغم الهجوم الإعلامي الهائل الذي تعرضت له منظمة التحرير وفتح، ورغم نقص التمويل والضغوط الهائلة، فإن التيار الوطني بقي قويا. بل إن نتائج الانتخابات السابقة أثبتت أن فتح لم تهزم إلا بفارق ضئيل، رغم كل الظروف غير المتكافئة.
وهذا يشير إلى أن المشروع الوطني لا يزال يحظى بثقة شريحة واسعة من الفلسطينيين، وأنه قادر على استعادة زمام المبادرة متى توفرت الظروف المناسبة. فالناس، خصوصا داخل فلسطين، أصبحوا أكثر وعيا بما جرى منذ السايع من اكتوبر وما تلاه حتى اليوم.
ستبقى آثار مشروع الإخوان والتمويل السياسي والإعلام الحزبي تضغط على القضية الفلسطينية لبعض الوقت، لكن المشهد بات أوضح بكثير.
لقد كشفت أحداث السنوات الأخيرة، وخاصة ما بعد 7 أكتوبر، معنى أن تختطف القضية لصالح فصيل واحد، ومعنى أن يضحي البعض بالشعب من أجل بقائهم في السلطة.
وفي المقابل، أعاد المشروع الوطني التأكيد على أن فلسطين أكبر من أي فصيل، وأن الدولة ليست شعارا بل مسارا سياسيا حقيقيا.
وفي الانتخابات القادمة، حين تجرى، ستكون الخيارات أوضح، من يحمل مشروع وطني جامع، ومن يحمل مشروع فئوي ضيق؟ من يدافع عن فلسطين، ومن يدافع عن حركته وسلطته؟ إن الفلسطينيين، بعد كل ما عاشوه، باتوا أكثر قدرة على الإجابة.
