تغريد سعادة
كاميرات الهواتف اليوم اختطفت كل الحكاية الفلسطينية. لم يعد الشعر قادرا على أن يسبق الصورة، ولا الرواية على أن تخلق دهشة أكبر من دهشة مشهد مباشر لطفل فلسطيني يصرخ بين الركام، والعالم كله يشاهده في اللحظة نفسها. أصبحت الصورة أسرع من اللغة، وأكثر صدقا من كل العبارات التي نحاول بها أن نكتب عن المأساة أو نفسرها.
أمام هذا البث المباشر، يبدو الأدب الفلسطيني في أزمة وجود، ما جدوى الكتابة عن الحرب حين تبث الحرب نفسها لحظة بلحظة؟ ما وظيفة الشاعر أمام كاميرات توثق كل شيء دون استعارة أو تورية؟ وكيف يمكن للروائي أن يبتكر حبكته حين تكون الحقيقة أقسى من أي خيال؟
أتساءل كثيرا، هل من يفرح لترجمة نصه إلى لغات العالم ساهم فعلا في نقل التجربة الفلسطينية، أم أنه يعيش موضة جديدة من الاحتفاء والجوائز واتفاقات النشر التي لا تغير شيئا من واقع الدم والتراب؟ هل تحولت الكتابة عن فلسطين إلى ممارسة رمزية نقنع بها أنفسنا أننا ما زلنا نملك أثرا، بينما الأثر الحقيقي صار في لقطة من هاتف؟
قرأت كثيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، ووجدت أن معظم النصوص تبدو هشة أمام الصورة. أي بلاغة يمكن أن تتفوق على مشهد أم تنتحب اطفالها التسعة او الثمانية او الستة او الاربعة الذين دفنهم القصف، وتكرر المشهد كثيرا؟ أو على صرخة طفل يبكي أبيه الذي تركه في عالم موحش مخيف، في الحرب؟ أمام هذا الوجع المكشوف، تنكسر اللغة، ويبدو الأدب كأنه يتلعثم أمام الحقيقة.
وفي خضم الحرب، رأينا مفارقة موجعة أخرى، أفلام عن غزة تحصد الجوائز على السجاد الأحمر، بينما غزة نفسها كانت تموت في اللحظة ذاتها. صور وابتسامات في المهرجانات، ودماء لم تجف بعد على الأرض. الأبطال الحقيقيون ما زالوا هناك، في الحرب، لا أمام الكاميرا ولا تحت الأضواء. هذا التناقض وحده كاف لنسأل، هل أصبح الألم الفلسطيني مادة للاستهلاك الفني أكثر مما هو نداء إنساني؟
لا أدعو إلى التخلي عن الأدب ولا عن السينما، لكني أطرح سؤالا ملحا، ما معنى أن نكتب بعد كل هذا؟ هل نكتب لنوثق؟ لنخفف عن أنفسنا؟ أم لنقيس أثرنا في عالم بات يستهلك المأساة كما يستهلك الأخبار؟
ربما لم يمت الأدب، لكنه لم يعد كافيا وحده. صار عليه أن يعيد اختراع نفسه، وأن يجد لغة جديدة في زمن صارت فيه الكاميرا تتكلم أكثر منا جميعا.
