د. أحمد يوسف
هذه الصفحات ليست تحليلًا أكاديميًا بقدر ما هي شهادة من موقع الفعل والمشاركة، أدوّن فيها جزءًا من تجربتي السياسية خلال واحدة من أدق المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، حين فازت حركة حماس بالانتخابات في يناير ٢٠٠٦، وتسلّمت مقاليد الحكم.
في تلك اللحظة، بدا المشهد أمام الغرب غامضًا وملتبسًا، فبدأت أبواب مغلقة تُفتَح على استحياء، ورسائل تمرّ في الظل، عبر ممرات خلفية لا يعلم بها إلا القليل.
وها أنا أعود اليوم إلى تلك التفاصيل، التي بقي أكثرها حبيس الصمت الدبلوماسي، لأرسم معالم مرحلة سياسية فارقة، لعلها تفيد من يقرأ التاريخ ليبني عليه فهمًا لا وهمًا.
في سياق البدايات
بعد الفوز الكبير لحركة حماس وحصولها على الأغلبية بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، وبعد قيامها بتشكّيل الحكومة العاشرة في السابع والعشرين من مارس، بدأت مرحلة جديدة ومفصلية في تاريخها السياسي والدبلوماسي، فقد شهدت تلك المرحلة تدفقاً لافتاً من الوفود الغربية وسفراء أوروبيين للقاء رئيس الوزراء إسماعيل هنية وقيادات الحركة، إلى جانب شخصيات نافذة ومقرّبة من دوائر صنع القرار في البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي.
كانت هذه اللقاءات تجري في الغالب بسرية وحذر بالغ، نظراً للوصمة التي حاولت إسرائيل والصهيونية العالمية إلصاقها بالحركة بوصفها “إرهابية”، ولما تمارسه اللوبيات الصهيونية والجمعيات اليهودية في الغرب –خصوصاً في الولايات المتحدة– من حملات تشويه وتحريض ممنهجة بهدف عزل حماس عن المشهد الدولي.
وبرغم هذه الجهود، فإن فوز الحركة المفاجئ شكّل صدمة إيجابية دفعت الإعلام الغربي إلى تحرّك نادر للتعرّف عليها وعلى رموزها وبرنامجها السياسي. وقد ساعد هذا الانفتاح الإعلامي، إلى حدّ ما، في كسر طوق الشيطنة المفروض، وإعادة تقديم حماس كقوة سياسية فاعلة في المشهد الفلسطيني.
وبوصفي مستشاراً سياسياً لرئيس الوزراء الشهيد إسماعيل هنية، وأحد المتحدثين القلائل باسم الحكومة بالإنجليزية، كنتُ في قلب هذه التحركات، حيث أُجريت معي العديد من اللقاءات والحوارات، وتلقيت دعوات لزيارة عواصم أوروبية. وفي نوفمبر 2006، سافرت إلى لندن والتقيت بعدد من نواب مجلسي العموم واللوردات، إلى جانب وسائل إعلام بارزة مثل صحيفة الغارديان وبعض القنوات التلفزيونية.
كما توجهت إلى بلفاست حيث التقيت بعدد من القيادات السابقة في الحزب الجمهوري الإيرلندي (IRA) وحزب شين فين. وقد انصبت الأسئلة هناك على هوية حركة حماس، وبرنامجها السياسي، وموقفها من الاعتراف بإسرائيل، في ظل جهل واسع في الغرب بمضامين الخطاب السياسي الإسلامي الفلسطيني.
لاحقاً، جاءتني دعوة لزيارة سويسرا للدخول في اتصالات حول رؤيتها لتحقيق السلام، وتمخضت تلك اللقاءات عن ما بات يُعرف لاحقاً بـ”رؤية جنيف – أحمد يوسف”، وهي مبادرة قائمة على هدنة لثلاث سنوات تقود إلى إنجاز حل الدولتين على مراحل. لاقت الخطة ترحيباً أوروبياً واضحاً، في حين التزمت واشنطن الصمت –ما فُهم حينها على أنه قبول ضمني– بينما قابلتها إسرائيل برفض قاطع.
هذا الانفتاح الأوروبي شجّع الحكومة الفلسطينية برئاسة حماس على مخاطبة عدد من الدول الأوروبية برسائل سياسية توضح رؤيتها للسلام، وتدعو إلى تسوية تُرضي الطرفين. إلا أن التحذيرات الإسرائيلية كانت تلاحق تلك المبادرات، بتهديدات مبطّنة لتلك الدول من مغبة “التواصل مع إرهابيين”!
أما العلاقة مع الولايات المتحدة، فقد ظلت حذرة ومحدودة، واقتصرت في أغلبها على قنوات غير رسمية، من خلال أكاديميين أو شخصيات بحثية قريبة من دوائر القرار، خاصة في عهد الرئيس باراك أوباما.
وقد التقيت ببعض هذه الشخصيات، وكان واضحاً من حديثهم أن تحركاتهم تتم بعلم رسمي.
في عام 2009، ومع زيارة الرئيس أردوغان للبيت الأبيض، شجّعنا ذلك على إرسال رسالة من رئيس الوزراء إسماعيل هنية إلى الرئيس أوباما، نقلها الزعيم التركي بنفسه. وبعد أشهر قليلة، تلقيت اتصالاً من شخصية أمريكية ذات خبرة طويلة في شؤون الشرق الأوسط -سبق أن ربطتني بها علاقات عمل وصداقة خلال وجودي في واشنطن كمدير لمركز أبحاث- أبلغتني فيه برغبة بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية بلقائي في العاصمة النرويجية أوسلو.
أبديت تحفّظي على أوسلو نظراً لما تحمله من دلالات سلبية في الذاكرة الفلسطينية، وفضّلت مدينة زيورخ السويسرية لما توفره من مرونة لوجستية وسرية حركة، وافق الطرف الآخر، وأبلغت رئيس الوزراء هنية الذي وافق على السفر.
لكن، ومع تدهور العلاقة حينها مع السلطات المصرية، اصطدمت الرحلة بعقبة المعبر، فعلى الرغم من الاحترام المتبادل مع شخصيات نافذة في جهاز المخابرات العامة المصرية، مثل اللواء محمد إبراهيم والعقيد أحمد عبد الخالق، فإنني مُنعت من المرور عبر معبر رفح بعد ساعات من الانتظار. أخبرت الطرف الأمريكي بذلك، وطلبت وساطة مباشرة مع اللواء عمر سليمان، لكن الرد كان حاسماً بضرورة الحفاظ على السرية المطلقة لتفادي إحراج إدارة أوباما أو استغلال القصة من قبل اللوبي الصهيوني ضدها. وهكذا، أُجلت الزيارة، وبقي الملف طي الانتظار.
وللتاريخ، لم تكن تلك المحاولة الأولى من نوعها، فقد شهدت الكواليس لقاءات سابقة كان أبرز من حضرها د. موسى أبو مرزوق، أحد قيادات الحركة، مما يؤكد أن ما يجري من اتصالات اليوم –سواء بشأن مفاوضات إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين من أصول أميركية أو غيرها– ليس جديداً، وإنما هو امتداد لحوار غير معلن يجري حسب المصلحة الأمريكية، خاصة في ظل إدارة ترامب التي رفعت شعار “أمريكا أولاً”.
والحق أن هذا الشعار بقي مرناً تجاه إسرائيل، إذ عبّر البروفيسور الأمريكي جيفري ساكس عن الواقع بشكل دقيق حين قال: “لسوء الحظ، فإن السياسة الخارجية الأمريكية تصنعها إسرائيل – أو بالأحرى نتنياهو!”
لقد ظل باب العلاقة مع واشنطن موارباً، وهناك من حملوا رسائل غير مباشرة في عهد أوباما، كما كانت لقاءات الرئيس الأسبق جيمي كارتر –سواء في غزة أو القاهرة أو دمشق– تعكس اهتماماً أمريكياً بالاستماع إلى وجهة نظر حماس، ولو بعيداً عن أعين الإسرائيليين.
ختاماً.. إن ما دار في تلك الكواليس يثبت أن السياسة –حتى في أشد لحظاتها صلابة– تعرف المواربة والمفاجأة، وأن من يُصنَّف بالأمس خارج المعادلة، قد يُستدعى اليوم إلى الطاولة.
إن هذه التجربة -بكل ما فيها من صعوبات وتعقيدات- تؤكد أن حماس، رغم الحصار، استطاعت أن توصل صوتها إلى عواصم القرار، وأن ما يجري في العلن ليس دائمًا هو ما يتحكم في مصائر الشعوب… بل كثيرًا ما يتم اتخاذ القرار في الممرات الخلفية.
