تغريد سعادة
في كل مرة يرحل فيها شاعر أو مثقف عربي، تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه ساحة عزاء مفتوحة، لا تمارس فيها طقوس الحزن بقدر ما تستعرض فيها طقوس الانتماء الرمزي الزائف. وفجأة، يبدو الجميع وكأنهم تربوا على كتابات الراحل، وتتدفق الكلمات والصور والمقولات المجتزأة، في مشهد جماعي لا يخلو من العاطفة، لكنه محمل بالكثير من الادعاء الثقافي والتثاقف المصطنع.
ما جرى بعد رحيل زياد الرحباني ليس ببعيد عن ذلك. تحول الرجل، الذي قضى حياته يكتب ضد الطائفية وينتقد الزيف الاجتماعي، إلى رمز يحتفى به خارج سياقه، وداخل قوالب لا تشبهه. تم اختزال تجربته إلى مجموعة من المقولات المكررة والمقاطع المسرحية، بينما أهملت تناقضاته وحيرته ومواقفه المتغيرة، وكل ما يجعل فكره معقدا وإنسانيا.
وبالطريقة نفسها، يعاد اليوم احياء ذكرى رحيل الشاعر محمد زكريا، صاحب الصوت البسيط والحاد في آن، بكلمات جاهزة ومشاعر متشابهة من أناس لم يعرفوا قصائده ولا صوت مدينته ولا جوعه ولا شعره الذي يسكن تفاصيل الناس.
إن ما يجري هنا، وفقا لما يحلله الناقد الفلسطيني وليد أبو بكر في كتابه الهام «ظاهرة التثاقف وآثاره المدمرة على السرد»، هو نوع من “التثاقف”، لا الثقافة. فالتثاقف عند أبو بكر، “استعراض قصدي للمعرفة داخل الخطاب، دون حاجة أو وظيفة فنية أو فكرية، وإنما من باب التظاهر بامتلاكها.”
وهو ما نراه اليوم في سلوك المستخدم الرقمي العربي، الاقتباس دون قراءة، والمشاركة دون وعي، والانتماء دون معرفة. كأن كل وفاة تصبح فرصة لارتداء معطف ثقافي لا يملكه الكثيرون.
وليد أبو بكر يذهب أبعد من ذلك، فيقول: “ذروة التثاقف أن يتحول القارئ أو الكاتب إلى مرآة للآخرين، يردد ما يقال، ويتظاهر بالانتماء لمشروع ثقافي لم يقرأه ولم يعشه.”
إننا أمام لحظة ثقافية خطيرة، حيث تتحول وسائل التواصل الاجتماعي من منابر للحوار الثقافي إلى مسارح للتثاقف، حيث يمارس كثيرون دور “المثقف الافتراضي”، لا من باب الإنتاج أو التحليل، بل من باب الرغبة في التواجد داخل لحظة رائجة.
قد لا يكون هناك ضير في التعبير عن الحزن الجماعي، لكن الخطر يكمن في أن يتحول التمجيد إلى طقس فارغ، ويصبح المثقف الراحل أيقونة بلا مضمون، ورمزا بلا قراءة.
الوفاء الحقيقي للمثقف لا يكون بإعادة نشر صورته، بل بقراءة ما كتبه، بنقده حين نختلف معه، وبمواصلة الأسئلة التي أثارها. أما غير ذلك، فهو مجرد تثاقف رقمي لا يصنع معرفة بل يكرس الوهم الجماعي.
