تغريد سعادة
جميل عبد النبي، ناشط سياسي فلسطيني، وأحد الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، راكم تجربة نضالية طويلة في قطاع غزة، حيث ارتبط في بدايات تكوينه الفكري والشخصي بحركة الجهاد الإسلامي الا انه بعد بحث عميق تركها. في حديثه إلى “زيتون نيوز”، قدم عبد النبي قراءة نقدية لفكر الجماعات الإسلامية، واعتبر أن حركة حماس لا تمتلك مشروعا تحرريا واقعيا على غرار منظمة التحرير الفلسطينية، وأنها تستند إلى الدين لتبرير خلافها مع حركة فتح.
كما تناول عبد النبي موضوع الانقسام وواقع حكم حماس في غزة على مدار ثمانية عشر عاما، ليسرد لنا تقيما كان مغيبا تماما على الاعلام، وصولا إلى ما جرى في السابع من أكتوبر 2023. مشيرا الى ان برنامج السلطة الذي تم تخوينه من قبل حماس هو ما يعمل عليه نتنياهو لانهائه منعا لقيام الدولة الفلسطينية.
وكان لنا معه هذا اللقاء:
كنتم من قيادات حركة الجهاد الإسلامي في غزة، متى بدأت مسيرتكم القيادية ومتى قررتم ترك الحركة؟ وما الأسباب الرئيسية التي دفعتكم الى ذلك؟ وهل تصف نفسك الان مستقل؟
أنا لاجئ، وأنتمي إلى أسرة فقيرة أُجبرت على ترك بيوتها وأراضيها عام 1948. والدي كان في الأصل فلاحا يعمل في أرضه التي أقيمت عليها إسرائيل، وعندما اضطر للهجرة خرج من أرضه بملابسه الشخصية، ولم تكن له مهنة يمكنه ممارستها للحصول على ما يقيم به صلبنا. لذا كان يضطر للعمل في أراضي المواطنين في منطقة جباليا، وهذه الأعمال موسمية، ليست متاحة كل الوقت، وما يحصل عليه من النقود لم يكن كافيا لسد حاجتنا، فكنا نعتمد بالمطلق على مساعدات الأونروا، والتي لولاها لمات الناس جوعا، وبالطبع فإن هذه المساعدات يمكنها فقط أن تبقيك حيا، لكنها لا تكفي لاحتياجات الحياة الضرورية الأخرى، كنا ننتظر ما كانت توزعه الأونروا من الملابس القديمة التي كنا نستلمها في فترات متباعدة، يسمونها “السرّة”، وهي ملابس قديمة تجمعها الأونروا من متبرعين في دول عالمية. فتحت عيناي على هذا الواقع، وعلمت أن كل هذا البؤس سببه أن هناك دولة أقيمت على أنقاض شعبه. دولة ادعى منشئوها أن لهم الحق في كل الأرض الفلسطينية، التي لا نعرف أرضا غيرها لنا، منذ آلاف السنين، حتى قبل أن تدب قدما سيدنا إبراهيم عليه السلام على ترابها، كانت مسكونة بالفلسطينيين، وظلت كذلك حتى قيام هذه الدولة، التي زعمت أن الله منحها هذه الأرض، لمجرد أن بعض أجدادها القدماء كانوا هنا قبل ثلاثة آلاف سنة، ثم غادروها، طبعا هذا إن صدقت الرواية التوراتية، التي بالمناسبة لم تجد لها أي مستند داعم من خارجها. الغريب أن منشئي هذه الدولة لم يكونوا مؤمنين، ولا متدينين، لكنهم استخدموا البعد الديني لتأكيد حقهم في أراضي الآخرين، والأغرب أن الدول التي ساعدتهم على إنشاء هذه الدولة لم تكن دولا متدينة أيضا، إنما دول علمانية، لكن، ولأهداف استعمارية واضحة في حينه عملت على إنشاء هذه الدولة.
هذا هو الواقع الذي فتحت عيناي عليه، كان من الطبيعي لكل جيلي أن ينشأ وفي داخله هدف لا يمكنه التخلي عنه، وهو مقاومة هذا الاحتلال، والعمل على انتزاع حقوقه منه. كنت متدينا، كجزء من تربيتي البسيطة، وحينما بلغت كانت الساحة الفلسطينية تعج بالقوى الوطنية التي ترفع شعار مقاومة إسرائيل، والعمل على تحرير الأراض الفلسطينية منها، إحدى هذا الفصائل كانت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والتي بالمناسبة لا تربطها أي علاقة بتنظيمات الجهاد العالمية، إنما هي فقط حركة تحرر فلسطينية ذات خلفية دينية، وأيدولوجيا دينية.
انا كمتدين، وكشاب نشأ في بيئة مشحونة بالمشاعر الوطنية وجدت في هذه الحركة الأكثر مناسبة لعقلي البسيط في حينه، فهي حركة تجمع بين الدين ومقاومة الاحتلال. لم أفحص الافكار بما يكفي، لم تكن قدراتي الثقافية في حينه قادرة على محاكمة الأفكار والأيدولوجيات، فانتميت إليها، وعملت في صفوفها، حتى قبل أن اكمل عامي السادس عشر، واعتقلت على أثر انشطتي فيها اكثر من مرة، كانت آخرها في عام 1990، وحتى عام 1994، خلال وجودي في السجون الإسرائيلية كانت القراءة هي هوايتي المفضلة. توسعت مداركي، وما لم أكن قادرا على فحصه في لحظة عمرية معينة صرت قادرا على بعضه، أخضعت أفكاري كلها للفحص، وجدت أن اهم الأفكار السياسية التي كانت تطرحها حركة الجهاد والمتمثلة في القضاء على دولة إسرائيل كدولة أنشأت ظلما على بقايا الفلسطينيين، وجدتها فكرة غير ممكنة واقعيا، لا بقدراتنا الذاتية كفلسطينيين، ولا حتى لو وجدنا جهات إقليمية جاهزة لمساعدتنا، فالعالم الذي أنشأ إسرائيل لرعاية مصالح استعمارية قديمة، لا تزال مصالحه تفرض عليه الحفاظ على وجودها، وسوف لن يسمح لنا بإزالتها حتى لو كنا نستطيع ذلك، تيقنت أننا أمام هدف مستحيل التحقق، وأن إهدار طاقة شعب كامل في سبيل هدف مستحيل التحقق أكثر ضررا من الخيانة ذاتها.
في الجانب الإنساني بدأت أرى المسألة من زاوية أخرى، الا يمكن أن يكون اليهود مثلنا ضحية للعقلية الاستعمارية العالمية التي جلبتهم إلى هنا من أجل مصالحها، وهي تدرك مخاطر غرسهم في بقعة غريبة عنهم؟ ماذا عن الأجيال اليهودية التي ولدت هنا، ووجدت نفسها على أرض قيل لها انها أرضهم؟ ورضعوا مع حليب أمهاتهم ما رضعنا مثله؟ ألسنا كلنا بشرا في النهاية؟ ألا نستطيع أن نعيش معا في دولة واحدة، وأن نوقف مسيرة الدم؟
في الشق الديني، وبعد قراءتي للتجارب الدينية، سواء في تاريخنا الإسلامي، أو للتجارب غير الإسلامية اكتشفت أن الجمع بين الدين والدولة سيصل إلى نتيجة حتمية، أن الدولة هي التي ستقبض على رقبة الدين، وستتحكم في تأويله وفقا لمصالحها وأهدافها، وأنها ستحوله من عامل جمع وتوحيد للناس، إلى عامل تفرقة بين المكونات المتباينة للشعوب، حتى داخل الدين الواحد، كما أنني توصلت إلى قناعة أن النص الديني المنزل ترك لنا دنيانا لنديرها وفق معارفنا، ومعاييرنا نحن، وأنه لا يطلب منا أكثر من أن تكون تلك الإدارة مسقوفة بالقيم الأخلاقية، التي باتت الآن مشتركا إنسانيا لكل البشر.
هذه المراجعات وسعت المسافة بيني وبين كل حركات الإسلام السياسي، وليس فقط حركة الجهاد، التي بالمناسبة لم أكن فيها قائدا بالمعنى الحرفي، فأنا لست من صفوفها الاولى، ربما كنت أحد كوادرها، وناشطيها، واحد قادتها المحليين، لكن ليس أحد قادتها الكبار، ولا المؤسسين، وحينما تبلورت أفكاري المعاصرة حول الدين، وفلسطين كان من الطبيعي أن أغادرها بصمت دون ضجيج، لم أنشق عنها، إنما غادرتها، وانحزت لما أؤمن به.
لا أنكر اقترابي أكثر تجاه الأفكار الواقعية، والتي تمثلها حركة فتح في الساحة الفلسطينية، لكن قراري النهائي كان أن أبقى حرا من أي قيد تنظيمي، وأن أمارس حياتي كمستقل، نعم أنا مستقل تماما، في أفكاري، في خياراتي، لا سلطة لأي جهة رسمية، او فصائلية علي، وأظنني سأبقى كذلك إلى أن القى الله سبحانه وتعالى.
سمعناك على الشاشات وانت تنتقد حماس وتعارض ما يجري في غزة وانت مقيم بها، لماذا كل هذا الغضب على حماس؟
أنا مختلف مع حماس سياسيا، وأيدلوجيا، وفقا لتحولاتي الفكرية والسياسية، حتى قبل أن أغادر حركة الجهاد قبل سنوات طويلة، هذا الاختلاف لم يكن من وجهة نظري مدعاة للاقتتال، لكنه كان واسعا حتى قبل السابع من أكتوبر 2023، فحركة حماس تنتمي إلى الحركة الأم ” الإخوان المسلمين” وولائها إلى الإخوان كحركة عالمية يتقدم على ولائها الفلسطيني، وهي جزء من الإسلام السياسي، الذي تمثل حركة الإخوان رأس حربته في المنطقة، كانت حركة حماس آخر فصيل فلسطيني قرر تبني فكرة المقاومة المسلحة في فلسطين، كان ذلك بعد انطلاقة الانتفاضة الأولى عام 1987، لكنها منذ انطلاقتها سعت للاستحواذ على مسمى المقاومة، التي سبقها الكل الفلسطيني إليه. كما سعت للاستحواذ على الدين كوصية متفردة عليه، ورفضت الاستفادة من تجارب الفصائل الفلسطينية التي سبقتها في الاحتكاك بالواقع العربي، والإقليمي، والدولي، والذي أوصلها إلى. فكرة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حماس أصرت على خطاب البدايات، وعلى زعمها العمل والقدرة على إزالة إسرائيل، وتحرير كل فلسطين، ،،خلال مسيرتها منذ انطلاقتها حتى يومنا هذا تبنت خطابا تخوينيا للقوى الفلسطينية التي دفعها الواقع للقبول بفكرة حل الدولتين، ليس تخوينيا وحسب، إنما تكفيريا ايضا، حتى وإن لم تعترف حماس في خطابها الرسمي بذلك، لكنكِ لن تجدي مشقة في الوصول إلى ذلك من خلال متابعة بسيطة لخطاب شيوخها، وقادتها، خاصة اثناء الاقتتال عام 2007، في النهاية تسبب هذا الخطاب في الوصول إلى لحظة الانقسام في الساحة الفلسطينية، والاحتكام إلى السلاح، الذي أفضى إلى سيطرة حماس المطلقة والمتفردة على غزة.
لم يكن الانقسام حدثا عفويا، إنما نتيحة طبيعية للأفكار التخوينية، والتكفيرية من جهة، واستدراج إسرائيلي من جهة ثانية، التي رعت هذا الانقسام وعززته فيما بعد، وهذا بالمناسبة لم يعد سرا، وهناك جدل كبير داخل إسرائيل حول دور نتنياهو شخصيا في مسالة تعزيز سلطة حماس في قطاع غزة، ليس حبا فيها، ولا بالتوافق الرسمي بينهما، إنما بتلاقي المصالح، فهو يريد التنصل من أي استحقاقات سياسية للفلسطينيين، وحماس تسعى إلى ان تكون بديلا عن السلطة ومنظمة التحرير، والاستحواذ عليها.
واصلت حماس بيعها لوهم القدرة على إزالة إسرائيل، وعملت على تجييش جناحها العسكري، وانتقلت بالمقاومة من مربع المقاومة الشعبية إلى ميدان الحروب، المحسوم مسبقا لصالح إسرائيل، حتى وصلنا إلى لحظة السابع من أكتوبر 2023، التي بادرت فيها حماس لإشعال فتيل حرب لا طاقة لها، ولا لشعبها بها، وقدمت لذلك حججا لا تصمد امام الفحص، كقولها أن هذه الحرب كانت قادمة لا محالة، وانها فعلت ذلك كخطوة استباقية لمنعها، والآن النتائج تتحدث عن ذاتها، لقد استغلت إسرائيل خطوة حماس لسحق الحياة الفلسطينية كلها داخل قطاع غزة، بل والعمل في كل المنطقة، لم يكن هدف إسرائيل المعلن حقيقياً حول القضاء على حماس، فهو مجرد هدف يقدمه نتنياهو للعالم كهدف مقبول عالميا، لكنه في الحقيقة كان يستغله لتحطيم كل فرصة لبقاء الفلسطينيين في غزة، حطم البيوت، المستشفيات، الطرقات، الكهرباء، كل البنى التحية، كل تفاصيل غزة المدنية تم تحطيمها، فلقد تعامل نتنياهو مع خطوة حماس كفرصة تاريخية لتحقيق رغباته في اقتلاع الوجود الفلسطيني، وبالمناسبة فلقد عبر العديد من القيادات الإسرائيلية عن كون خطوة حماس فرصة تاريخية.
كان على حماس بمجرد أن اكتشفت نتيجة خطأ حساباتها ان ترجع خطوات إلى الخلف، كأن تسلم كل الملف للسلطة الفلسطينية، أو لمصر، او لاي جهة، كي تنقذ شعبها من مخططات إسرائيل غير السرية، لكنها اختارت المكابرة، والدفاع عن خطوتها، رغم كل النتائج الواضحة، إلا أن حماس لم تقبل الاعتراف بأي خطأ حول إشعالها فتيل هذه الحرب، وواصلت إطلاق تصريحات بواسطة كل قيادييها تسيء للدماء الفلسطينية، وتستخف بها، وتبدي استعدادا واضحا للتضحية بكل الشعب، ليس في سبيل مواصلة حرب تحرير فلسطين، فهي الآن تستجدي وقف هذه الحرب، إنما في سبيل الحفاظ على إبقاء حزبها، وحكمها، ولا حتى سلاح المقاومة التي تلعب به على وتر مشاعر الناس الوطنية العاطفية، فهي تدرك قبل غير أنه لا وجود الآن لسلاح قادر على مواجهة إسرائيل، إنما بقايا سلاح قادر على حماية حكمها.
الآن نحن أمام خيارين، إما أن نمنح نتنياهو الفرصة لإكمال مشروعه في سحق بقايا حياتنا كفلسطينيين في غزة، ودفعنا في اتجاه الهجرة من غزة، وإما موافقة حماس على خروجها من مشهد الحكم، فماذا سنختار؟ ليس أمامنا أي فرصة للحياة إن واصلت حماس مكابرتها، وتمسكها بحكم أطلال غزة، لذا نكثف ضغطنا في محاولة لإنقاذ ما تبقى منا.
قناة الجزيرة تسلط الضوء على عمليات كتائب القسام في غزة، وتظهرها كما لو أنها إنجازات عسكرية لجيش منظم. ما هو الواقع الفعلي لهذه العمليات؟ وهل لكتائب القسام حضور وتأثير في الشارع الغزي، وما الذي يجري على الأرض فعلياً؟
قناة الجزيرة حرفيا تكذب، ولديها أجنداتها الخاصة بالمنطقة، نحن هنا في فلسطين، وفي غزة تحديدا نعرف أكثر من اي جهة في الدنيا حجم الكذب الذي تمارسه الجزيرة بهذا الخصوص، حتى ما قبل هذه الحرب، لم تكن الجزيرة أمينة ولا مرة واحدة في نقل الاخبار، ولا في عرض الحقائق، إنما تنقل بعض ما يعزز توجهاتها، وتتجاهل تماما أي حدث لا يغذي روايتها.
لا كتائب القسام، ولا كل أجنحة الفصائل المسلحة ترقى إلى مستوى جيش على مستوى التسليح، لا طائرات، ولا دبابات، ولا أي من الوسائل القتالية الثقيلة، وكان على الجزيرة أن تقدم الحقيقة للعالم، أننا شعب أعزل، وأن وسائلنا البدائية لا تستدعي كل هذا الاستخدام المفرط المجنون للقوة الإسرائيلية، لكن الجزيرة تقدم هدية مجانية لإسرائيل حينما تظهرها كأنها لا تقاتل شعبا أعزلا، إنما جيوشا نظامية، ما يمنحها الشرعية لجنون آلتها العسكرية.
خطيئة أخرى ترتكبها الجزيرة حينما تصر على تقديمنا في صورة البطل المنتصر، فبدلا من أن تتعاطف معنا شعوب العالم، وخاصة شعوبنا العربية، فإن الجزيرة تقدم لها صورة مدعاة للفخر، وليس مدعاة للتعاطف، فتنام شعوبنا العربية في العسل، على اعتبار أن هناك أبطالا ينوبون عنها في قتال إسرائيل.
الحقيقة أننا نذبح هنا، بكل معنى الكلمة، الموت هنا هو اسهل كلمة يمكن لك ان تسمعيها، يوميا هناك موت، حتى قدرتنا على التعاطف مع موتانا تحطمت، لأنها احداث يومية، وتجد في البحث عن طعامك اليومي غير المتوفر أصلا أولوية عن التعاطف مع الموت، نحن نكاد نفقد إنسانيتنا هنا، منظومتنا القيمية تحطمت، كل شيء فينا مات، لكن الجزيرة تصر على تقديمنا في صورة البطل، فتجدها تركز مثلا على ما تسميه احداثا أمنية، قد تفضي لمقتل جندي إسرائيلي، وتمنحها هالة من التضخيم، فتجذب أنظار المتابع العربي، وتحول بينه وبين رؤية الجانب الآخر للحقيقة، وهي أن هناك شعبا كاملا يتم قنله.
هناك مقاومة فردية بلا شك، وإن كنت بالطبع غير مطلع على تفاصيلها، لكن النتائج واضحة لنا تماما، كل منطقة يدخلها الجيش الإسرائيلي وتحدثنا الجزيرة عن مقاومتها الضارية، بمجرد أن ينسحب منها الجيش نجدها وقد تحولت إلى خرابة، ومقبرة، وكومة من الركام، لكن كل هذا لا يهم على ما يبدو في نظر الجزيرة وجمهورها، طالما أن هناك صورة لبطل عظيم ينوب عن امة كاملة.
حماس تؤكد انها لن تسلم السلاح ماذا تقولون بهذا الخصوص؟ وهل تعتقد كشخص كنت قريب من حماس، انها معنية بالوصول الى اتفاق مع الاحتلال؟
أولاً على حماس أن توضح طبيعة هذا السلاح الذي لن تسلمه، هل هو سلاح قادر على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، وحماية الفلسطينيين من هذه الآلة التدميرية؟ أم أن الحديث الآن يدور عن بقايا سلاح لا يمكنه سوى تثبيت حكم حماس؟ لقد دمرت إسرائيل كل ما تمتلكه حماس من السلاح، الذي في الأصل لم يكن قادرا على مواجهة إسرائيل في الحروب المفتوحة، ولم يتبق من هذا السلاح سوى البنادق، والتي تصلح فقط للضبط الداخلي، بمعنى الحفاظ على حكم حماس، كما أن هذا السلاح لم يثبت عدم قدرته على حماية الفلسطينيين في غزة وحسب، إنما اتخذته إسرائيل ذريعة لمواصلة عملية تدمير الحياة الإنسانية في غزة أيضا، لذا فإن الهالة التي تحاول حماس إحاطة هذا السلاح بها، على اعتباره يمثل شرف فلسطين ليست أكثر من لعب على مشاعر الناس، المؤمنين بحقهم في مقاومة إسرائيل، وكأن حماس تقول لهم، إن إسرائيل تقايض وقف الحرب بتنازلكم عن شرفكم، لكن الحقيقة أبدا ليست كذلك، فحماس تدرك أن سلاحها انتهى، وأن ما تبقى منه لا وزن له في المواجهات المفتوحة مع إسرائيل، ليس حماس وحدها من تدرك ذلك، كل الغزيون يعرفون هذه الحقيقة، حيث لا توجد حرب في غزة بالمعنى الحرفي، لا توجد حرب بين طرفين مسلحين، هناك حرب من طرف واحد وهي إسرائيل، لا تستهدف هذا السلاح، الذي تدرك أنه لم يعد له وجود أصلا، إنما تتخذه ذريعة لمواصلة مشروع تدمير أهلية غزة للحياة، وهي حينما تصر على شرط تسليم السلاح تنطلق من معرفتها بسيكولوجيا حماس، والعواطف الفلسطينية، خاصة تلك التي لم تشارك الغزيين في دفع فاتورة الدم، وشخصيا أزعم أن إسرائيل وضعت هذا الشرط لرفضه، كي تواصل حربها على مقدرات الحياة المدنية في قطاع غزة، وإلا فما ذنب مساكن المدنيين، ما ذنب المستشفيات، والطرق، وشبكات الكهرباء، وشبكات الصرف الصحي، وسيارات الإسعاف؟ أما حماس فستواصل الرهان على كثافة الدم المراقة من شعبها، لعلها تشكل ضغطا أخلاقيا على إسرائيل، فتوافق على وقف الحرب، دون إزالة حكم حماس. حماس تفاوض الآن ليس من أجل سلاح قادر على حماية شعبها، ولا سلاح قادر على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، إنما تفاوص على بقاء حكمها.
نحن كفلسطينيين غزيين ندفع فاتورة الدم من دماء أطفالنا، ومساكننا، وقدرتنا على البقاء نقول لحماس، إن بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه أهم من بقاء حكمك، وإن السلاح الذي لا يحمي شعب حامليه ليس جديرا بالتضحية من أجله، ما بالك إن كان هذا السلاح تستخدمه إسرائيل كمبرر لمواصلة حرب الإبادة، والتهجير ضد الغزيين العزل، لكني أشك بأن حماس ستوافق على مقايضة حكمها، ولو بفناء شعبها.
في الحديث عن عمليه طوفان الاقصى، هناك من يتحدث انها جاءت خدمة لنتنياهو، وفي التوقيت المناسب لانقاذه من السقوط؟ كيف ترى ذلك؟ اوضح لنا نطرتك لهذه العملية؟
طبعا خدمة لنتنياهو، وخدمة لإسرائيل كلها، فلقد حدثت كارثة الطوفان بينما كانت الخلافات الداخلية في إسرائيل تعصف بها، ليس بالضرورة أن حماس توافقت مع إسرائيل على هذه المسألة، وأنا شخصيا أستبعد ذلك، لكني متيقن أن إسرائيل كانت على علم بما سيحدث، وبمخططات حماس لحادثة الطوفان، وهذا ليس مجرد تحليل مني كمعارض لحماس، إنما ما توضحه التحقيقات الرسمية في إسرائيل، والعديد من التقارير التي تصدر عن مطلعين على تفاصيل المعطيات الأمنية، إسرائيل كانت تدرك أن حماس تخطط لفعل كبير، بل إن إسرائيل كانت تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، والتي لم تتردد في وصفها كفرصة تاريخية لإعادة رسم خريطة المنطقة، وعلى العموم فإن تعبير “فرصة تاريخية” استخدمه كثيرون داخل مؤسسة الحكم في إسرائيل، وبرأيي فإن إسرائيل لم تكن فقط على علم بما سيحدث، إنما ساهمت في حدوثه، فهي تتقن فن استدراج الغوغاء الفلسطينية للمربعات التي تريدها، كي تتخذه ذريعة لتنفيذ مخططاتها، وانظروا ما الذي تفعله إسرائيل الآن، هل فعلا تنتقم من فاعلي الطوفان وحدهم، على اعتبار ما فعلوه مجزرة، أو هولوكوست جديد؟ أم أنها تحارب الوجود الفلسطيني في غزة، من خلال تدمير كل مقدرات الحياة في غزة، وتحويلها إلى خرابة غير قابلة للحياة؟
المسألة أوضح من ان توضح، حماس بغبائها انقذت نتنياهو، وإسرائيل، ونتنياهو بدهائه، وبعقليته الإجرامية وجد في حماقة حماس فرصة لتحقيق أهدافه المعلنة، فنتنياهو لا يؤمن بأن الفلسطينيين شعب، ولا بحقهم في دولة خاصة بهم، ولقد كتب ذلك حرفيا في كتابه “مكان تحت الشمس” ويبحث في كل السبل التي تمكنه من تحقيق سياسته، وإلا فلو كانت المسألة مجرد حرب على فصيل إرهابي كما يدعي، فلماذا يصر على استبعاد السلطة الفلسطينية أيضا، الموقعة مع إسرائيل على معاهدات دولية؟ لأنه باختصار يشن حربا ليس على حماس، إنما على المستقبل الفلسطيني، متخذا من حماس ذريعة لتحقيق أهدافه.
ما هو رأيكم في الانقسام الفلسطيني الذي نفذته حماس؟
إذا كانت نكبة فلسطين الأولى هي تهجيرهم عام 1948، فإن النكبة الحقيقية الثانية هي الانقسام، ياتي بعدها الطوفان كمقامرة غير محسوبة.
حتى نفهم خطورة الانقسام أكثر علينا العودة مرة أخرى إلى سياسات اليمين الإسرائيلي المعلنة، والتي عبر عنها نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس، والذي اعتبر فيه أن أكبر خطايا اليسار الإسرائيلي تتمثل في توقيع اتفاق أوسلو، والموافقة على تشكيل كيان فلسطيني يمكن أن يتطور إلى دولة فلسطينية، على اعتبار فكرة الدولة الفلسطينية، حتى ولو كانت منزوعة السلاح تشكل خطرا وجوديا على إسرائيل.
لقد ورث نتنياهو قيادة الليكود من سلفه إسحاق شامير رئيس حكومة إسرائيل الأسبق، والذي قال حرفيا، إنه كان يخطط لمفاوضة الفلسطينيين لعشر سنوات دون أن يمنحهم اي شيء، لكن فوز حزب العمل عام 1992 غير المعادلة، حيث ذهب حزب العمل في اتجاه اتفاق أوسلو، تجنبا لمخاطر الديمغرافيا الفلسطينية، ولقد استمعت شخصيا إلى إسحاق رابين خلال المقابلة الانتخابية مع شامير وهو يقول، إنه يؤمن بكل أرض إسرائيل، لكنه مضطر لاقتطاع جزء من جسده للتخلص من مليون وسبع مئة الف فلسطيني، كانوا في حينه مجمل سكان الضفة الغربية وغزة من الفلسطينيين، لكن حينما عاد حزب الليكود إلى السلطة في إسرائيل عام 1996 بقيادة نتنياهو، جاء وفي جعبته هدف أوحد، منع تطور السلطة الفلسطينية الناشئة إلى دولة، حيث لا يؤمن نتنياهو أبدا بحق الفلسطينيين في دولة، بوصفهم ليسوا شعبا من الأساس، كان نتنياهو ومن خلفه اليمين الإسرائيلي يسعى لإفشال اتفاقية أوسلو بكل السبل، وكانت إحدى أهم أدواته هي الانقسام. ان محور فيلادلفيا الفاصل بين غزة ومصر كانت تسيطر عليه إسرائيل حتى عام 2005، ومثله الحدود بين الضفة والأردن، لكن حماس في غزة استطاعت جلب السلاح من سيناء، رغم وجود الجيش الإسرائيلي على محور فيلادلفيا، بينما لم تستطع في الضفة فعل ذلك رغم أن حدودها مع الأردن اطول بكثير، المسألة ليست عفوية، لقد غضت إسرائيل الطرف عن غزة، ليس بالضرورة باتفاق مع حماس، بينما لم تفعل ذلك في الضفة، وحينما تيقنت إسرائيل أن حماس في غزة صارت قادرة على مواجهة السلطة انسحبت من غزة تماما، فبدأت على الفور مناوشات الاقتتال في غزة، حتى وصلنا إلى نقطة السيطرة التامة لحماس، والتي تعني انهيار النظام السياسي الفلسطيني، وعجزه عن تمثيل كل المناطق الفلسطينية التي تسعى السلطة لإقامة الدولة عليها.
كل المراقبين لأحداث الاقتتال يدركون أن إسرائيل في حينه لو أرادت منع حماس من السيطرة على غزة لاستطاعت ذلك بطيارتين هيلوكبتر، لكنها تركتها تحكم السيطرة على غزة، لتتنصل من اي استحقاقات سياسية من جهة، وللتخلص من عبئ المليونين نسمة الديمغرافي.
نتنياهو واليمين الإسرائيلي لن يوافق على فكرة الدولة الفلسطينة في غزة والضفة، وأعدموا هذا الخيار بإغراق الضفة بالاستيطان، وبفصل غزة من خلال دحرجة حماس للسيطرة عليها، إن أكثر ما يمكن أن يوافق عليه نتنياهو للفلسطينيين هو منحهم مجرد إقامة كأجانب في إسرائيل، أما الدولة فهو يزعم ويكرر أن هناك دولة فلسطينية قائمة بالغعل وهي الأردن، وعلى من يرغب من الفلسطينيين بدولة فلسطينية فعليه الذهاب إلى الاردن، والتخلي عن وهم ما يسميه “المبدأ الفلسطيني” الخطير حسب وصفه في كتابه المذكور اعلاه، المتمثل في وجود أغلبية من جنسية دولة معينة في مدينة في دولة اخرى، ومطالبتها بدولة جديدة بذات اسم دولتها الاصلية في مدينة الدولة الاخرى، فدولة فلسطين قائمة فعليا حسب زعمه في الضفة، ولا يمكن القبول بسابقة قبول مبدأ إقامة دولة جديدة لمجرد ان رعايا دولة ما صاروا اغلبية في إحدى مناطق دولة أخرى.
بكلمة أخرى، إن الانقسام الذي نفذته حماس كان أحد اهم ادوات اليمين الإسرائيلي للقضاء على حلم الدولة الفلسطينية في غزة والضفة.
بماذا تصف الـ 18 عاما التي حكمت فيها حماس غزة؟ وما هي أبرز التحديات التي واجهها القطاع خلال حكمها؟
قلت من قبل أن حماس فشلت في الحكم، لقد روجت حماس شعارات شعبوية لا أعرف إن كانت تقصدها فعلا، أم أنها مجرد ديماغوجيا. رفعت حماس شعارا يقول، يد تبني، ويد تقاوم. كما روجت لفكرة الدمج بين السلطة والمقاومة! في حالة حسن الظن بحماس ستجد نفسك أمام غباء منقطع النظير، فغزة التي سيطرت عليها حماس ليست دولة مستقلة، ومثلها كل المناطق الفلسطينية الخاضعة جزئيا لولاية السلطة الفلسطينية، ليست دولة حرة تستطيع فرض إرادتها الحرة على العالم، إنما خاضعة لسلطة الاحتلال في كل التفاصيل، نحن حتى لا نمتلك الحق في إصدار البطاقات الشخصية إلا بعد موافقة إسرائيل، ولقد فوجئت شخصيا عند قيامي بتجديد بطاقتي الشخصية في عهد حماس بأنها ترسل كل الأوراق إلى إسرائيل، وإلا فإن ما تفعله سيظل حبرا على ورق، وهذا بالمناسبة أحد أوجه التنسيق الأمني الذي تشيطنه حماس إلى ابعد مدى.
نحن نستورد طعامنا من إسرائيل، غازنا الطبيعي، الكهرباء، مياه الشرب، حتى الهواء الذي نتنفسه، وأنت تأتي لتقول بأنك ستقاوم الجهة التي تحتاجها في كل تفاصيلك بقوة السلاح، وتواصل في نفس الوقت بناء الدولة! بمجرد سيطرة حماس على السلطة دخلت غزة في أزمات مفتعلة، أرهقت المواطن، وحطمت الاقتصاد المحلي، الذي أصلا حاولت حماس السيطرة عليه حزبيا.
حتى في القليل المتوفر لغزة من مقومات الحياة لم تكن عملية توزيعه تجري بشكل عادل أبدا، دائماً الحزب أولا، وإن أردت الحصول على أي وظيفة مهما كانت متدنية عليك الحصول على موافقة أمير المسجد في منطقتك، ما يعني الخلط الكبير بين العمل الحكومي والحزبي.
تفاقمت البطالة خاصة لدى شباب جيل التسعينات، انهار الاقتصاد الخاص، أودع عدد من المقاولين السجون لذمم مالية لعدم قدرتهم على وفاء التزاماتهم، نتيجة توقف أعمالهم بشكل كامل، وحينما تجففت بعض المصادر المالية لحماس أمعنت في فرض الضرائب على كل التفاصيل، وبشكل أرهق كاهل المواطن، الذي اعتبرت حماس أنها ليست مسئولة عن إطعامه، وتشغيله، إنما علقت ذلك دائما على شماعة الحصار، والسلطة الفلسطينية.
انفاذ القانون كان يحتاج إلى عدم تدخل النافذين في القسام والتنظيم. ضاقت حماس ذرعا بأي محاولة نقدية، ولم تستطع احتمال مجرد تظاهرات سلمية تطالب بتحسين جدول فصل ووصل الكهرباء المميت، ولا تظاهرات الشباب البائس تحت عنوان “بدنا نعيش”.
بطالة، فقر، اعتداء على الحريات الفردية، حضور دائم لقوى الأمن في حياة المواطنين المدنية، تغول الأجنحة العسكرية بحجة المقاومة، غياب الشفافية، سيطرة الحزب على كل مقدرات غزة، وهذا مجرد فيض من غيض، كان حكم حماس لغزة حكما فاشلا بامتياز، أرهق المواطن، ودفع الكثيرين تجاه إلقاء أنفسهم للمجهول عبر الهجرة غير الشرعية، بحثا عن أي مكان يجدون فيه الحد الأدنى من مقومات الحياة.
من وجهة نظركم، ما هي الطرق الواقعية للخلاص مما يعيشه أهلنا في غزة اليوم، سواء على الصعيد الإنساني أو السياسي؟
ليست هناك حلول سحرية، خاصة الآن بعد حرب الطوفان، كما أنه قد بات من الواضح أن المسألة لم تعد محصورة في اختياراتنا الحرة كفلسطينيين، إنما هناك إسرائيل، بمعنى أن إسرائيل الآن هي التي تفرض إرادتها على واقع ومستقبل قطاع غزة، بل على واقع ومستقبل كل الفلسطينيين سواء في الضفة أو غزة، لكن غزة تحديدا تحاول إسرائيل أن تقرر لها مستقبلها، بعيدا عن إرادتنا كفلسطينيين، ولقد أعلن نتنياهو مرارا بأن غزة لن تعود مجددا إلى حضن السلطة الفلسطينية. ويعمل الآن على خلق جهة موالية لإسرائيل، قد تكون مؤقتة إلى أن يكمل مخطط التهجير الذي يسميه زورا بالتهجير الطوعي، بينما هو في الحقيقة ليس طوعيا على الإطلاق، فحينما يتم تحطيم كل مقومات الحياة من حولك، وهذا ما فعلته إسرائيل حرفيا في قطاع غزة، ثم يقال لك, بأنك تمتلك حرية البقاء، أو الهجرة، فهذا كذب مطلق، فالخيارات باتت محصورة فقط في الهجرة، أو البقاء في منطقة غير مؤهلة للبقاء، فهل هذا تهجير طوعي؟
الخوف الآن أن يستطيع نتنياهو فرض مسألة التهجير، عندها يصبح حديثنا، أو مقترحاتنا حول مستقبل غزة مجرد حبر على ورق، مع ذلك فإن نتنياهو ليس قدرا، ولا يزال بالإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الخطوة الأولى تبدأ بحماس، حيث عليها أن تعلن الآن قبولها بأي مقترح يوقف الحرب أولا، ثم تسليم كل الملف للسلطة الفلسطينية، أو للدول العربية وخاصة مصر بشكل مؤقت، إلى حين العمل على تمكين السلطة، ليس هناك من سبيل لغزة سوى بالعودة إلى حضن السلطة الفلسطينية، كجهة شرعية معترف بها عالميا، حينها يمكن للسلطة أن تعمل على إعادة إعمار غزة، وإعادة تأهيلها، حتى تصبح الحياة ممكنة، أما إن واصلت حماس تعنتها فإنها تقدم لنتنياهو خدمة العمر، بأن تمنحه فرصة مواصلة الحرب التي يزعم أنها على إرهاب حماس، او داعش حماس، كما يحب أن يعبر أحيانا، وهو في الحقيقة لا يحارب حماس وحدها، إنما يستغل وجودها لشن حرب على الوجود الفلسطيني في غزة، كما هو حاصل الآن، من خلال عمل إسرائيل الدؤوب على تحطيم كل سبل ومقدرات الحياة في قطاع غزة.
حركة “حماس” تمتلك منظومة إعلامية متكاملة خاصة بها، وتحظى بدعم قنوات عربية ودولية مثل الجزيرة والميادين والعالم، في حين أن حركة “فتح” لم تبن أدوات إعلامية مشابهة، وتعرضت في الوقت نفسه لهجوم إعلامي مكثف من الجانب الإسرائيلي. كيف تقيم دور الإعلام في تكريس صورة “حماس” باعتبارها المقاومة الوحيدة، مقابل تصوير المشروع الوطني الذي قادته “فتح” على أنه فاشل أو حتى خائن؟ هل تعتقد أن الإعلام الحمساوي والإسرائيلي معا ساعدا في صياغة هذه المعادلة، أم أن الأزمة مرتبطة بجوهر المشروع السياسي لفتح نفسه؟
المشروع الوطني الذي قادته فتح- كما تقولين- ليس فاشلا، إنما تتحالف عليه قوى كبيرة في المنطقة لإفشاله، على رأس هذه القوى إسرائيل تحت حكم اليمين بقيادة نتنياهو. نتنياهو جاء أصلا إلى السلطة في إسرائيل وفي جعبته هدف مقدس بالنسبة له، وهو منع تطور مشروع السلطة الفلسطينية إلى دولة، حيث لا يؤمن أبدا بحق الفلسطينيين في دولة، ولا بكونهم شعبا ككل الشعوب، ولو كان يستطيع أن يلغي اتفاقية أوسلو بجرة قلم لفعل، لكنه وجد نفسه أمام واقع رسمي تم خلقه على الأرض، فهناك اتفاقيات وقعت عليها إسرائيل بشكل رسمي وبرعاية دولية، وهناك سلطة فلسطينية حقيقية باتت موجودة رسميا، بأجهزتها الأمنية والمدنية على الأرض، مع ذلك لم يتنازل نتنياهو، ولا اليمين الإسرائيلي عن فكرة منع تخلق دولة فلسطينية، وواصل العمل على إضعاف السلطة، حتى أن إسرائيل خلال ما يعرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية كانت تقصف مقرات السلطة الفلسطينية كلما قامت حماس، او الجهاد بأي عملية عسكرية ضد إسرائيل.
العمل على إفشال مشروع السلطة والدولة الفلسطينية جاري الآن على قدم وساق، ومن المؤسف أن أهداف اليمين الإسرائيلي التقت مع أهداف اليمين الفلسطيني المتمثل بحماس والجهاد برفض مشروع السلطة، وعرقلة تطورها إلى دولة، إسرائيل تسعى إلى ذلك لرغبتها في كل الأرض الفلسطينية، وتجنبا لمخاطر وهمية تزعم أن الدولة الفلسطينية ستجلبها إن قامت، وحماس والجهاد على اعتبار السلطة ودولتها المستقبلية تعد تفريطا ب 78% من مساحة فلسطين لصالح إسرائيل، في كل الأحوال التقت بكل أسف مصالح اليمين الإسرائيلي بمصالح حماس والجهاد في رفض مشروع السلطة، وأوسلو.
لا يبرئ هذا فتح كليا من سوء آدائها في الدفاع عن مشروعها، ومن عدم تقديمها لنظام حكم يرقى إلى مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني، لكن من الظلم أن نحكم على مشروع فتح بالفاشل دون الاعتراف بعدد الجهات التي عملت على إفشاله، وقدرات هذه الجهات.
أما الإعلام فهو ليس بريئا بالطبع، ومن المؤسف أن معظم القنوات الكبرى في المنطقة مملوكة للجهات المعادية للمشروع الفلسطيني الذي تقوده حركة فتح، فهو بالمناسبة ليس مشروع فتح وحدها، حتى وإن قفز البعض من سفينتها بحثا عن نجاة وهمية في سفن أخرى، إنما مشروع منظمة التحرير، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، الإعلام المعادي للمشروع الفلسطيني سواء المتمثل في قناة الجزيرة الداعم الأكبر للإخوان المسلمين في المنطقة، أو إعلام ما يعرف بمحور الممانعة، أو المقاومة، أو إعلام إسرائيل، كلها تحالفت ضد السلطة بشكل أو بآخر، لإظهارها وكأنها بالغعل مشروع خياني، من خلال تضخيم بعض الأخطاء، أو اختلاق وجودها والتركيز عليها، وتجنب الحديث عن أي منجزات حقيقية للسلطة، وهناك شواهد كثيرة لهذا التركيز والتضليل الذي قادته وسائل الإعلام ضد السلطة، خاصة الجزيرة وإعلام محور المقاومة، في المقابل فإن إعلام السلطة هزيل، ومهترئ، وضعيف، وأحيانا مشارك بغباء آدائه في تشويه ذاته.
ربما تعيد النتائج الكارثية لحرب الطوفان بعض الاعتبار لمشروع السلطة، بعد أن تكشفت خطورة المشاريع الديماغوجية الأخرى، وهزالة بعض المسميات التي باعت الوهم للمواطن العربي والفلسطيني كمسمى محور المقاومة، وكذلك انعدام ثقة الأغلبية الفلسطينية بالدور القطري، ودور قناة الجزيرة، ربما لو نجحت السلطة في استغلال اللحظة لإعادة توضيح طبيعة مشروعها، ربما مرة أخرى ستعود بعض الثقة لهذا المشروع، مع أن ملاحظاتنا أن ازمات السلطة وحركة فتح البنيوية قد تعرقلان أي محاولة ناجحة بهذا الخصوص.
يوصف حكم حماس للقطاع بأنه استند إلى سيطرة صارمة، البعض يقول “الحديد والنار”. كيف تصفون تعامل حماس مع المعارضين من حركة فتح وحركات إسلامية أخرى خلال تلك الفترة؟
الإسلاميون ومن ضمنهم حركة حماس لديهم مشكلة، حيث يقحم الدين كعامل إضافي من عوامل التفرقة بين المكونات الوطنية، وحماس ليست بدعا من حركات الإسلام السياسي، فهي كغيرها من هذه الحركات تستخدم الدين في تبريرها لخلافاتها مع الآخرين، وهنا يكمن جوهر إصرارنا على ضرورة تحرير الدين من قبضة الدولة، فالدين هنا لا يحكم الدولة، إنما تحكمه الدولة، وتستخدمه لتبرير أعمالها، وخصوماتها، ولطالما شهد تاريخ الدول الدينية جرائما ارتكبت في حق المخالفين، جميعها استخدم الدين لتبريرها.
حماس أيضا بررت خلافاتها مع حركة فتح على سبيل المثال بتبريرات دينية، وهذا ما لا تستطيع حماس إنكاره، وهناك الكثير من التسجيلات المتداولة على نطاق واسع وصفت فيها حماس حركة فتح بزنادقة العلمانية، ومن المعروف حسب الفهم الديني ما تعنيه كلمة زنادقة، وأيضاً كيف تنظر حركات الإسلام السياسي للعلمانية.
تعاملت حركة حماس مع حركة فتح في غزة بالكثير من القسوة، يمكن وصفها بالحديد والنار، ومثل هذه القسوة تعاملت بها حماس مع التشكيلات السلفية التي اعتبرتها حماس تهديدا لحكمها وسيطرتها على قطاع غزة، وهناك على سبيل المثال ما فعلته مع حركة عبد اللطيف موسى في رفح، مع العلم أن عبد اللطيف موسى وأشباهه من السلفيين سيكونون أكثر قسوة من حماس، فيما لو قدر لهم أن يصلوا إلى الحكم.
تختلف المسألة بعض الشيء في تعامل حماس مع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، فرغم ما بين الحركتين من تنافس، وما يشبه الكراهية الميدانية، إلا أنهما استطاعتا تطوير حالة من التحالف السياسي فيما بينهما، نظرا لحاجة كل منهما للآخر، فحماس تريد ألا تبدو وحيدة في رفضها لمشروع السلام، او مشروع منظمة التحرير، لذلك سعت لشكل من أشكال التحالف، ليس مع الجهاد وحدها، إنما مع كل من يجمعه بها معارضته للسلطة الفلسطينية، ومشروعها، أما الجهاد فلقد وجدت في هذا التحالف فرصة للعمل بحرية نسبية وفرها لها تحالفها مع حماس، وما أعرفه أن هذا لا يعني عدم وجود صدامات بينهما، بل العكس، فكثيرا ما كانت تحدث بينهما صدامات ميدانية، لكنها دائما كانت تجد طريقها إلى الحل بشكل او بآخر.
اريد منك ان تشرح لنا كيف هو اداء حماس كسلطة في غزة خلال الهدنة والتزامها ببنود الهدنة، وماذا كانت تفعل لتحافظ عليه؟ ونريد اجراء مقارنات بما تقوم به السلطة للحفاظ على التزاماتها؟ هناك من يعتبر السلطة خائنة، في حين يبرر لحماس كل فعل لها. ماذا تقول بهذا الخصوص؟
على سبيل المثال، وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس صواريخ حماس والجهاد الإسلامي بأنها صواريخ عبثية، بينما وصفت حماس على لسان الدكتور محمود الزهار الصواريخ التي تطلقها جهات أخرى دون التنسيق معها بأنها صواريخ خيانية، ثمة فرق بين الوصفين. كل من السلطة وحماس له مشروعه، السلطة جاءت بعد تجربة طويلة تضم فصائل منظمة التحرير، مارست خلالها هذه الفصائل كل أشكال المقاومة، إلى أن وصلت إلى اللحظة التي أيقنت فيها ألا حل عسكري للقضية الفلسطينية، ربما إلا في المستوى الذي يحافظ على حضور القضية الفلسطينية، كآخر معاقل الاستعمار المباشر في العالم، فذهبت في اتجاه الحل السلمي، المدعوم من المجتمع الدولي، مستندة إلى قرارات دولية لا تزال محل إجماع دولي، عارضت حماس والجهاد الإسلامي هذا التوجه، وعملا بكل طاقتيهما لإفشاله، فكان من الطبيعي أن تتصدى السلطة لاختراقات حماس، ربما نستطيع تسجيل بعض الملاحظات على طريقة التصدي لهذه الاختراقات، لكنها في النهاية ملزمة وفقا لاتفاق أوسلو بأن تمنع اي خرق لالتزاماتها الدولية، أما حماس فنظريا تبنت فكرة تحرير كل فلسطين، وتحت هذا العنوان خاضت حربها مع السلطة، حتى استطاعت السيطرة على غزة بالكامل عام 2007، لكنها أجبرت أكثر من مرة على الموافقة على هدنة، أو تهدئة مع الاحتلال، ودائما كان هناك من لم ترق له هذه الهدنة، لكن حماس لم تتهاون في ضبط أي فعل مخالف لاتفاقاتها غير المباشرة مع إسرائيل.
حينما كانت حماس خارج السلطة لم تحترم اتفاقيات السلطة الفلسطينية، وحينما أحكمت قبضتها على الحكم في غزة أصرت على ضرورة احترام الآخرين لاتفاقياتها!!!
السلطة ليست خائنة، هذا مجرد هراء، وأسلوب مبتذل لمحاكمة الآخرين، السلطة وكل مكوناتها سبقوا حماس والجهاد بعقود طويلة في ممارسة المقاومة والكفاح المسلح، إلى أن وصلوا إلى حتمية الجلوس إلى طاولة المفاوضات، واستطاعوا انتزاع اعتراف العالم لأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث بسلطة شرعية تمثل الكل الفلسطيني، أما حماس التي تعلن تبنيها لفكرة العمل المسلح كوسيلة حصرية لتحرير فلسطين، ولا ترى حاجة لإجماع فلسطيني لممارسة هذا الحق، في أي لحظة، وفي أي مكان، فهي عمليا من سقطت في حالة من التناقض، حينما عملت على منع الآخرين من ممارسة أي عمل مسلح من خارج عباءتها.
ماذا تتوقع عن مستقبل حماس؟
كانت هناك فرصة ما قبل إشعال حماس لفتيل الحرب الأخيرة أن تتحول حماس إلى حزب سياسي فلسطيني يشارك في العملية السياسية، بعد السابع من أكتوبر قدمت إسرائيل صورة لحماس على أنها فرع داعش في فلسطين، واستطاعت أن تقنع العالم بهذه الصورة، والآن جاري العمل على تصنيف حماس كحركة إرهابية ووضعها في القائمة السوداء، وبرغم ملاحظة انزياحات ملموسة في العالم تجاه الرواية الفلسطينية بعد مشاهد الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل، إلا أن هذه الانزياحات لم تغير من رؤية العالم لحماس، فهي لا زالت في نظرهم حركة إرهابية، ومن غير الممكن فلسطينيا احتضان حماس بصورتها الحالية، وإلا فإن السلطة الفلسطينية نفسها إن فعلت ذلك سيتم تصنيفها كسلطة إرهابية، مما يساعد إسرائيل على مواصلة التنصل من أي استحقاقات سياسية.
آمل أن تقرأ حماس الواقع على حقيقته، وأن تعرف أنها أضرت بالقضية الفلسطينية في أكثر من محطة، سواء حينما ساعدت اليمين الإسرائيلي في العمل ضد مشروع السلطة، والدولة على حدود 1967، أو حينما فصلت غزة بقوة السلاح عن ولاية السلطة، أو حينما أشعلت فتيل حرب لا طاقة لها ولا لشعبها بها، وجلبت ردة فعل صهيونية غاية في الوحشية، أدت في نهاية المطاف إلى إعدام غزة حرفيا، من خلال إعدام كل سبل ومقدرات الحياة الآدمية فيها، وقدمت صورة للعالم على أنها ليست مجرد حركة تحرر، إنما فرع داعش في فلسطين.
إن فهمت حماس طبيعة هذا الواقع فعليها العودة خطوات وليس مجرد خطوة إلى الخلف، وأن تقبل بتحولها إلى حزب سياسي يسعى للمشاركة في الحياة السياسية، وليس الاستحواذ عليها، ما دون ذلك ستعمل حماس على تحطيم ما تبقى من القضية الفلسطينية خاصة في غزة، وستدخل في حالة عداء مع الكل الفلسطيني
