تغريد سعادة
منذ تأسيسها في أواخر الثمانينيات، واجهت حركة حماس مفارقة صعبة بين كونها حركة مقاومة عسكرية وبين سعيها للتحول إلى سلطة سياسية تدير المجتمع وتتحكم في الحكم. هذه الثنائية التي بدت في البداية نقطة قوة لأنها جمعت بين “البندقية” و”الخدمة الاجتماعية” تحولت اليوم إلى مصدر انقسام داخلي يهدد كيان الحركة نفسه، بعد أن أصبحت غزة ساحة تنازع بين قيادات وأجنحة وتنظيمات وعشائر مسلحة، وسط انهيار مؤسساتي شامل بعد عامين من الحرب المدمرة.
منذ منتصف التسعينيات وحتى العقد الأول من الألفية، بدأت ملامح أول انقسام داخل حماس بالظهور.
فقد شهدت الحركة جدلا حادا بين التيار الذي يرى أن العمل الاجتماعي والسياسي هو الطريق لكسب الشرعية الشعبية وبناء قاعدة جماهيرية، وبين التيار العسكري الذي يصر على أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين.
وبحسب دراسات معهد واشنطن The Washington Institute، فإن ضعف التمويل وتقلص الدعم الإقليمي حينها، دفع بعض قيادات حماس إلى التفكير في التهدئة أو المفاوضة غير المباشرة، بينما رفض جناح القسام ذلك تماما، معتبرا أي تسوية سياسية هو تفريط بالدماء والتضحيات.
كان ذلك بداية الشرخ الأيديولوجي الذي سيظهر لاحقا على نحو أعمق عندما تحولت الحركة من “مقاومة” إلى “سلطة” حيث جاءت لحظة السيطرة على غزة عام 2007 لتكشف المأزق الأكبر في مسيرة حماس.
فبعد الصدام الدموي على حركة فتح، وإقصاء خصومها من القطاع، أصبحت حماس الحاكم المطلق. لكن هذه السيطرة خلقت واقعا جديدا لم تعرفه الحركة من قبل، إدارة الحكم اليومي والأمن والاقتصاد والخدمات والعلاقات الخارجية، وهي مجالات لا يمكن أن تدار بعقلية المقاومة وحدها.
منذ ذلك الحين بدأت تظهر تباينات داخل صفوف حماس نفسها، بين من يرى أن “الحكم” ضرورة لحماية المقاومة، ومن يرى أن الحكم جر الحركة إلى مستنقع التنازلات والإدارة المدنية البعيدة عن جوهرها المقاوم.
اليوم، وبعد هجوم الـ 7 أكتوبر 2023 والحرب التي استنزفت القطاع حتى الرمق الأخير، تواجه حماس أخطر مراحلها التنظيمية.حيث تحدثت تقارير اجنبية، The Washington Post وThe Times عن مواجهات داخلية في مدينة رفح بين عناصر من كتائب القسام ومجموعات محلية مسلحة يعتقد أنها فقدت الاتصال بالقيادة منذ أشهر.
الأخطر أن بعض هذه المجموعات تتلقى دعما لوجستيا من أطراف إقليمية في إطار ما وصفته الصحف استخدام القوى المحلية لتقويض هيمنة حماس على الأرض.
ردت حماس بحملة أمنية عنيفة ضد مجموعات عشائرية في رفح، متهمة إياها بـ”الخيانة والتعامل مع العدو”، لكن تقارير أخرى أشارت إلى أن ما حدث كان أقرب إلى صدام داخلي على النفوذ والسلطة، لا مجرد مواجهة أمنية.
منذ سنوات، كانت حماس تفاخر بأنها تجمع الفصائل الفلسطينية تحت راية “غرفة العمليات المشتركة”، لكن الواقع الميداني اليوم يشي بعكس ذلك رغم ما هو ات من غزة محدود.
تقرير The National أشار إلى أن الفصائل المشاركة في الحرب الأخيرة لم تكن تتلقى أوامر موحدة، بل كانت تتصرف في كثير من الأحيان بقرارات ميدانية منفصلة، وهو ما يوضح عمق التصدع داخل منظومة المقاومة في غزة.
وضغط الحرب والخسائر البشرية والمادية الضخمة، وتدمير البنية التحتية، أضعفت قدرة حماس على السيطرة التنظيمية، مما شجع قيادات ميدانية على اتخاذ قرارات مستقلة. ان تناقض الدور بين السلطة والمقاومة، فحماس التي تحكم وتقاتل في آن واحد، تجد نفسها أمام معضلة دائمة، كيف تكون سلطة مسؤولة أمام الناس وفي الوقت نفسه حركة مقاومة تتحدى العالم؟
ان الضغوط الأمريكية-العربية لإدارة مرحلة ما بعد الحرب، جعلت الحركة في موقع دفاعي، تعيد تموضعها خوفا من خسارة السيطرة.
تغير الحلفاء، الفصائل التي كانت حماس تعتبرها شركاء باتت تطالب بدور متساو، وتعارض بعض قراراتها، مما يزيد التوتر. كما ان رفح كمختبر للأزمة، والتي هي حدودها المفتوحة مع مصر، وضعف القبضة المركزية، جعلاها مسرحا طبيعيا لتجربة التمرد والانقسام داخل القطاع.
في ضوء هذه المؤشرات، يبدو أن حماس لم تعد الحركة التي عرفها الفلسطينيون قبل عقدين. انقسامها الداخلي لا يقتصر على الخلافات الفكرية، بل يمتد إلى بنية القيادة والميدان والتمويل. فهناك “حماس الخارج” التي تتعامل بلغة السياسة والدبلوماسية، و”حماس الداخل” التي لا تزال ترى في السلاح وسيلة البقاء الوحيدة. وبينهما تقف كتائب القسام التي تحاول فرض الانضباط بالقوة، بينما تتآكل شعبيتها بسبب تدهور الأوضاع المعيشية وفقدان الثقة الشعبية بعد سنوات من الحصار والحرب والتي دفع ثمنها الشعب الفلسطيني في غزة وليس حماس.
