تغريد سعادة
مع دخول الحرب على غزة شهرها الثاني والعشرين، لم تعد حركة “حماس” كما قدمت نفسها على مدى سنوات. خسارتها الحقيقية لم تتجسد فقط في الدمار أو الحصار، بل في انهيار مشروعها السياسي داخليا، وتراجع مكانتها عربيا، وتآكل دورها ضمن ما يعرف بمحور المقاومة، الذي التحقت به متأخرة وبعد صراع طويل مع أقطابه في دمشق ومع حزب الله، وامتثالها في حينه للمشروع الإخواني في سوريا.
منذ 7 أكتوبر 2023، يدفع سكان قطاع غزة الثمن الأكبر من هذه الحرب المستمرة. آلاف الشهداء، وملايين النازحين، ودمار شبه كامل، وانعدام مقومات الحياة الأساسية. وبعد نحو عامين من المعاناة، لم يعد الناس يرون في هذه المعركة مشروعا وطنيا، بل عبئا لا يتحملون كلفته، ولا يلمسون له اي أفق سياسي حقيقي.
ومع غياب أي محاسبة داخلية أو مراجعة لسلوك الحركة، بدأ التحول في المزاج الشعبي يظهر بوضوح، حتى من داخل بيئتها القريبة. قيادات سابقة محسوبة عليها بدأت تصرح علنا بنقمتها، مؤكدة أن استمرار الحرب لم يعد يخدم سوى الاحتلال، الذي يلوح عبر الإعلام العبري بإبقاء حماس حاضرة على الأرض، لاستخدامها ذريعة لتبرير العدوان المستمر. المفارقة أن إسرائيل تزعم أنها قضت على أغلب قيادات الحركة العسكرية والسياسية، ولم يبق سوى قادة الخارج.
في عام 2017، حاولت حماس أن تعيد تقديم نفسها عبر “وثيقة المبادئ والسياسات العامة”، التي أعلنت فيها أنها “حركة تحرر وطني فلسطينية إسلامية”، وليست جزءا من تنظيم الإخوان المسلمين. كما أبدت استعدادها لقبول دولة فلسطينية على حدود 1967 كحل مرحلي دون الاعتراف بإسرائيل، واعتمدت لغة أكثر اعتدالا من ميثاقها التأسيسي لعام 1988.
لكن رغم هذا التغيير الخطابي، لم تنجح الوثيقة في تعديل موقع الحركة عربيا أو دوليا. بقيت حماس تصنف ضمن معسكر الإسلام السياسي، وظلت الدول العربية الكبرى تنظر إليها كامتداد لجماعة الإخوان. وبلغت عزلتها ذروتها حين طلبت منها قطر في نوفمبر العام الماضي مغادرة أراضيها، في خطوة وصفت بأنها إعلان انتهاء الدعم العربي لها. ولولا تدخل قطر في ملف الوساطة لوقف إطلاق النار، لخرجت كل القيادات من الدوحة فعليا، كما فعل أسامة حمدان الذي توجه إلى موريتانيا، الوجهة الجديدة لعدد من قادة حماس الخارجين من غزة ضمن مراحل صفقة تبادل الأسرى، تحت تصنيف “الجرحى” ومرافقيهم من العائلات.
كانت الوثيقة محاولة تكتيكية لفك العزلة، لكنها لم تؤد إلى إعادة تموضع فعلي أو اعتراف بالحركة ككيان سياسي مستقل.
اليوم، تواجه حماس عزلة داخلية قاسية، وعزلة عربية متصاعدة ضمن مشروع إقليمي واسع لإنهاء ظاهرة الإسلام السياسي، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما نشهده بوضوح في الأردن، وتونس، ومصر، وتوجيهات السعودية، وغضب الإمارات من التيار الإخواني.
وفي الخارج، ما زالت حماس مدرجة على لائحة “المنظمات الإرهابية” في الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، ما يمنع أي اعتراف سياسي أو انفتاح فعلي تجاهها، وهو ايضا ما اكدته هذه الاطراف مجددا في غير موقع.
في ظل كل ذلك، فإن استمرار حماس بصيغتها الحالية لم يعد ممكنا. إن لم تقدم على مراجعة جذرية شاملة، وتعيد تموضعها ضمن مشروع وطني فلسطيني جامع، فإن مصيرها سيكون الزوال السياسي، بفعل فقدانها للشرعية الشعبية، والبرنامج الوطني، وحتى لغة الخطاب.
18 عاما من الانقسام والاستفراد بغزة، كافية لاظهار فشل البرنامج والذي لم يحقق للشعب الفلسطيني الا مزيد من الدمار والقتل وتشتت البوصلة.
