د. أحمد يوسف
في أعقاب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وتشكيلها الحكومة العاشرة برئاسة الأخ إسماعيل هنية، بدأنا نشهد تدفقاً ملحوظاً للوفود الأوروبية إلى قطاع غزة. كان هذا الحراك الدبلوماسي يعكس حالة من الفضول السياسي، وربما القلق، لدى المجتمع الدولي الذي أراد أن يتعرف على طبيعة هذه الحركة الإسلامية، التي وصلت إلى سدة الحكم بقرار شعبي، وبأغلبية برلمانية مريحة.
وقد جاء ذلك في ظرف سياسي شديد التعقيد، حيث قوبل فوز حماس بردود فعل متباينة: فقد سارعت إسرائيل وبعض الدول الغربية إلى فرض مقاطعة سياسية واقتصادية مشددة على الحكومة الجديدة، وشرعت في الضغط على الأنظمة العربية والإسلامية لعدم الاعتراف بها أو التعامل معها.
وفي المقابل، كانت هناك أصوات عاقلة في بعض العواصم الأوروبية –وتحديداً في النرويج وسويسرا– ترى أنه لا يمكن تجاهل نتائج صندوق الاقتراع، وأن التعامل مع حماس لا يعني بالضرورة القبول بكل ما تؤمن به، بل هو انخراط في واقع سياسي يجب تفكيكه وفهمه عبر الحوار.
أتذكر أن من أوائل السفراء الذين تركوا أثراً إيجابياً في انطباعنا، كان السفير السويسري “ديدييه بفريتر”، وهو رجل هادئ الطبع، عقلاني الطرح، يمتلك أسلوبًا دبلوماسيًا ذكيًا، وقد أبدى رغبة صادقة في فتح حوار مع الحكومة الجديدة. طرح الرجل أفكارًا تتعلق بإمكانية كسر حالة الجمود السياسي، والخروج من نفق “أوسلو” الذي فقد كثيرون الأمل في أن يقودنا إلى ما كنا نحلم به من دولة فلسطينية مستقلة.
من خلال لقاءاتنا مع السفير ديدييه، تبلورت مبادرة سياسية كان جوهرها فكرة “الهدنة”، وهي صيغة مستمدة من تراثنا الإسلامي، لطالما استخدمها المسلمون عبر القرون كوسيلة لتجميد القتال، وتهيئة الأجواء للتفكير والحوار. هذا الطرح لم يكن غريبًا عنا، بل شعرنا أنه يمنحنا مساحة آمنة للحركة والتواصل دون أن يُطلب منا دفع أثمان سياسية مسبقة كقضية الاعتراف بإسرائيل.
وقد كان من الضروري أن نقدّم تصوراً عملياً لهذه الفكرة، فتقدّمتُ حينها -بوصفي مستشاراً سياسياً لرئيس الوزراء- بصيغة اقترحت فيها معالم الاتفاق على هدنة طويلة الأمد، وتم عرضها على عدد من المبعوثين الدوليين من النرويج وسويسرا وبريطانيا.
في هذا السياق، جاء اعتراض الرئيس عباس على المبادرة، التي كانت حينها مجرد مسودة للمراجعة وإبداء الملاحظات، ورأى فيها أنها تتماهى -حتى لو بغير نية- مع فكرة “الحل المؤقت”، الذي تحاول إسرائيل فرضه واقعًا عبر مشاريع “السلام الاقتصادي” أو “الهدنة الطويلة”. وكان تقديره أن هذا النوع من الطروحات يؤسس لدولة ذات حدود مؤقتة في غزة، ويفتح المجال لتصفية القضية الفلسطينية من بوابة إنسانية أو أمنية، وليس سياسية وطنية شاملة.
وانسجاماً مع حالة الجدل وصخب الاتهامات والمناكفات السياسية، تمَّ تسريب
الوثيقة، ونشرتها لاحقاً صحيفة “دنيا الوطن”، وفيما يلي نصها الكامل كما وُثّق في حينه، تحت عنوان:
اقتراح لتهيئة ظروف مناسبة لإنهاء الصراع
ملخص المبادرة:
1. انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية إلى خط مؤقت يتم الاتفاق عليه.
2. هدنة لمدة خمس سنوات، يتوقف خلالها الطرفان عن أي أعمال قتالية أو استهداف متبادل.
3. امتناع إسرائيل عن اتخاذ أي خطوات تغيّر من الأمر الواقع في المناطق التي لم تكن تحت سيطرتها قبل 4 حزيران 1967، بما في ذلك تجميد الاستيطان وعدم تغيير المعالم البيئية والعمرانية.
4. حرية تنقّل الفلسطينيين إلى القدس الشرقية وداخل مدن الضفة الغربية.
5. تسهيل السفر من غزة إلى الضفة، وإلى كل من الأردن ومصر.
6. وجود رقابة دولية تضمن الالتزام بالنقاط أعلاه.
الرؤية والهدف:
لقد أردنا من خلال هذه الهدنة أن نخلق مناخًا من التهدئة يخفف منسوب التوتر المتصاعد، ويمنح الطرفين فرصة حقيقية لاختبار إمكانيات الحل السلمي على قاعدة دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب.
وكان الأمل أن تساعد هذه الهدنة على إعادة بناء جسور الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتمنح المجتمع الدولي، وخصوصًا العالم الإسلامي، فرصة لرؤية جديتنا في استكشاف مسارات سياسية واقعية دون تفريط في الثوابت.
كان تصورنا بعد هذه الهدنة هو إقامة دولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، مع صيانة حق العودة.
الأهداف الفورية للمبادرة:
– وقف دائرة العنف المتبادل.
– كسر الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على الحكومة.
– إتاحة الفرصة أمام الشعب الفلسطيني لبناء اقتصاده وتحقيق قدر من الاستقرار.
المسؤوليات الفلسطينية كما صغتها آنذاك:
1. احترام الهدنة لمدة خمس سنوات، والتزام جميع الفصائل بها.
2. وقف جميع أشكال العمل المسلح ضد إسرائيل.
3. تسهيل إقامة مشاريع اقتصادية مشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
4. استمرار العلاقات التجارية الطبيعية.
5. ضمان توجيه المساعدات الدولية إلى مشاريع حكومية، بإشراف مجلس اقتصادي مستقل من خبراء فلسطينيين.
6. تقديم تقارير شفافة حول الأموال العربية والإسلامية، تصرف عبر وزارة المالية.
7. تقديم ضمانات أمنية لتيسير حركة التجارة والسفر.
8. احترام المعايير الدولية في الحكم والإدارة.
9. الالتزام بالقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف.
المسؤوليات الإسرائيلية المقترحة:
1. الالتزام الكامل بالهدنة من جميع الأجهزة الإسرائيلية.
2. وقف العمليات العسكرية والاغتيالات داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها.
3. تجميد الاستيطان والبناء خارج حدود الرابع من حزيران 1967، بما يشمل الجدار العازل.
4. الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
5. تسهيل حرية الحركة والتجارة، وإعادة فتح الموانئ والمطارات الفلسطينية.
6. ضمان حرية وصول الفلسطينيين إلى القدس الشرقية.
7. دعم المشاريع الاقتصادية المشتركة، والسماح للعمال الفلسطينيين بالوصول إلى سوق العمل الإسرائيلي.
8. الالتزام الكامل بالقانون الدولي والمعاهدات الدولية.
دور المجتمع الدولي:
اقترحنا أن يتم تشكيل قوة دولية متعددة الجنسيات بقيادة اللجنة الرباعية وتركيا، تكون مهمتها مراقبة تنفيذ بنود الهدنة وتقديم الضمانات اللازمة. كما يُرفع تقرير دوري إلى مجلس الأمن الدولي حول التزام الطرفين ببنود الاتفاق.
كانت تلك المبادرة في حينها، أول محاولة جادة من حكومة حماس للاقتراب من مفردات الدبلوماسية الواقعية، والانفتاح على المجتمع الدولي بلغة سياسية متزنة، تحفظ الكرامة، ولا تُفرّط بالثوابت. ولا أنكر أن هذه المبادرة فتحت أمامنا لاحقاً أبواباً جديدة، وإن ظلت مغلقة في بعض العواصم التي لم تكن مهيّأة بعد لتقبّل حماس لاعباً سياسياً شرعياً في المشهد الفلسطيني.
1 Total Count
