تغريد سعادة
بدأت مدينة بيت لحم هذا العام احتفالات عيد الميلاد بإضاءة شجرة الميلاد العملاقة في ساحة المهد السبت الماضي، بعد توقف دام عامين بسبب الحرب على غزة، في احتفال يعكس موقف الفلسطينيين من هذه المناسبة ليس فقط كعيد ديني للمسيحيين، بل هو حدث وطني جامع يشارك فيه الفلسطينيون المسلمون والمسيحيون معا.
وتعد إضاءة شجرة الميلاد في بيت لحم واحدة من أبرز الفعاليات السنوية التي تعلن رسميا انطلاق أجواء العيد في المدينة التي تحتضن موقع ميلاد السيد المسيح، وتجذب آلاف الزوار من مختلف أنحاء العالم.
وتحت شعار: «قومي استنيري لأنَّهُ قد جاءَ نورُكِ» المأخوذ من سفر أشعيا النبي (60: 1)، انطلقت مراسم إضاءة الشجرة بدخول الموكب الرسمي، ومن ثم الإعلان عن انطلاق الفعاليات، فيما قدمت مجموعة الكشافة الفلسطينية المعزوفات الوطنية، تلاها الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء فلسطين.
وتعكس هذه الاحتفالات روح الانتماء الوطني الفلسطيني وقدرة المجتمع على الحفاظ على هويته الثقافية والدينية رغم التحديات المستمرة التي تواجه فلسطين على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بسبب الاحتلال الاسرائيلي.
استعدت المدينة لموسم الميلاد منذ أسابيع، وشملت الاستعدادات نصب شجرة الميلاد والمغارة وتزيين الشوارع والمحال التجارية بالأضواء والزينة التقليدية، إلى جانب تجهيز الأسواق التي تعرض منتجات الحرف اليدوية والفنون المحلية والزيوت والتماثيل والهدايا التقليدية، والتي تمثل جانبا مهما من الثقافة الفلسطينية المتوارثة عبر الأجيال.
كما شاركت فرق الكشافة ومرشدات “ملح الأرض” في تقديم عروض موسيقية وكشفية أضفت بهجة وروحا جماعية على المناسبة.
ولا تقتصر الاحتفالات في بيت لحم فقط، بل تشمل عددا كبيرا من القرى والمدن الفلسطينية مثل القدس والناصرة و رام الله و الخليل وجنين، وأريحا وغزة حيث تقام القداديس والصلوات وتنصب أشجار الميلاد وتضاء الشوارع والميادين.
ويبلغ عدد الكنائس في فلسطين نحو 1500 كنيسة، موزعة بين المدن والقرى الفلسطينية، وتتفاوت بين كنائس كبرى وتاريخية وكنائس صغيرة، بينها كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس، بالإضافة إلى كنائس في الناصرة، ورام الله وجنين والخليل وقطاع غزة. وتشمل الكنائس الكاثوليكية واللاتينية والأرثوذكسية والمارونية والإنجيلية، مما يجعلها مركزا دينيا وروحيا هاما للفلسطينيين.
وتضمنت احتفالات الميلاد في بيت لحم القداديس والصلوات، بينما توجهت الجموع بعد ذلك إلى ساحة المهد لإضاءة الشجرة والمغارة، وسط ترانيم وموكب رسمي شارك فيه المسؤولون المحليون والدبلوماسيون والزوار والفلسطينيون من مسلمين ومسيحيين، في رسالة تضامن ووحدة وطنية تعكس التلاحم المجتمعي والهوية الفلسطينية الجامعة.
وقد عادت الاحتفالات بعد انقطاعها لمدة عامين بسبب الحرب على غزة لتؤكد على قدرة الفلسطينيين على الصمود والمحافظة على تراثهم وموروثهم الروحي والثقافي.
وفي هذا السياق، أكدت بلدية بيت لحم في بيان رسمي أن إعادة الاحتفالات تأتي بعد سنوات صعبة عاشتها المدينة بداية بجائحة كورونا، وتلتها حرب تهدد وجود الفلسطينيين على أرضهم.
وقالت البلدية، “نضيء اليوم شجرة عيد الميلاد المجيد. النور سينتصر رغم الجراح الكثيرة، وبيت لحم آمنة وستبقى مفتوحة لاستقبال الجميع”.
وأوضحت أن قرار إعادة الاحتفالات جاء بعد موافقة القيادة السياسية الفلسطينية والمجلس الأعلى للكنائس، وقد لقي ترحيبا شعبيا وسياسيا ودينيا، بعد عامين من الصمت نتيجة الأوضاع في غزة والضفة الغربية. وأشارت التقارير إلى أن المسيحيين في قطاع غزة لم يتمكنوا من المشاركة في الاحتفالات هذا العام بسبب القيود الأمنية والاحتلالية المفروضة على القطاع، مما ألقى بظلاله على مشاركة جميع فلسطينيي الداخل والخارج في هذه المناسبة.
وقال رئيس بلدية بيت لحم ماهر قنواتي، في كلمة خلال الحفل إن مدينة الميلاد التي انطلقت منها رسالة السلام قبل أكثر من ألفي عام ما تزال تحمل رسالتها الأصلية رغم الجراح.
واعتبر قنواتي أن إضاءة شجرة الميلاد هذا العام يمثل الأمل والإصرار، ورسالة بأن بيت لحم ستبقى منارة محبة وكرامة إنسانية.
من جهته، قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رئيس اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس رمزي خوري، في كلمة ممثلا عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إن إضاءة الشجرة هذا العام تحمل دلالة خاصة وتعيد التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في الحياة على أرضه بحرية وأمن وكرامة.
وقال “إن ميلاد السيد المسيح هو ولادة دائمة للأمل وسط الألم، ورسالة بأن النور قادر دائما على قهر الظلام مهما اشتدت المحن، مشددا على أنّ الشعب الفلسطيني، رغم الجراح والحصار والعدوان، ما زال يحمل رسالة السلام العادل، ويصون كرامته الوطنية، ويتمسّك بحقه في الحرية والاستقلال.”
وأكد خوري أن إضاءة شجرة الميلاد هذا العام تتزامن وقلوب الفلسطينيين مع أهلهم في قطاع غزة، ومع أرواح الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، في ظل استمرار العدوان على غزة، والانتهاكات المتواصلة في الضفة الغربية، بما فيها القدس، ومحاولات طمس الهوية الوطنية.
وأشار إلى أن إضاءة الشجرة في بيت لحم ليست مجرد احتفال، بل إعلان عن وحدة شعبنا، وعن التقاء الكنائس والمؤسسات وكافة مكونات مجتمعنا على رسالة واحدة.
وتسهم هذه الاحتفالات أيضا في إحياء الحياة الاقتصادية للمدينة، إذ تعتمد بيت لحم بشكل كبير على السياحة الدينية كمصدر رئيسي للدخل السنوي، وتشهد الأسواق والفنادق حركة كبيرة خلال موسم الميلاد، فيما تشكل هذه الاحتفالات مناسبة للترويج للحرف التقليدية والمنتجات المحلية التي تشتهر بها فلسطين، مثل خشب الزيتون والحرف اليدوية والهدايا التراثية.
على الصعيد الرمزي، يحمل عيد الميلاد في فلسطين بعد وطني واجتماعي، إذ يشارك المسلمون والمسيحيون في جميع الاحتفالات، ويتقاسمون التجربة الثقافية والروحية، مؤكدين على الوحدة الوطنية واللحمة المجتمعية. ويجسد الاحتفال قدرة الفلسطينيين على تحويل المناسبات الدينية إلى رموز أمل وسلام وحرية، وإبراز دورهم الحضاري والتاريخي، كما يعكس التصميم على صمود الهوية الفلسطينية على مر الزمن، حتى في ظل التحديات الكبيرة مثل الحرب على غزة، والحصار، والقيود على حرية الحركة داخل الضفة الغربية وخارجها.
سيادة المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس قال على صفحته على الفيسبوك “إن شعبا ما يزال يزين مدنه ويقيم أعياده، هو شعب يعرف تماما معنى الصمود. فالفرح عندنا ليس ترفا ولا مناسبة عابرة، بل فعل إرادة، وموقف عنيد في وجه كل ما حاول أن يكسر معنوياتنا.”
واضاف، “حين تنصب شجرة الميلاد في بيت لحم، وحين تتردد أجراس الكنائس في القدس، وحين تتلألأ الناصرة بألوانها، لا يكون ذلك مجرد احتفال، بل إعلانا واضحا أن هذه الأرض ما زالت قادرة على أن تنجب جمالا، وأن أبناءها ما زالوا قادرين على أن يحبوا ويعطوا ويحتفلوا رغم كل شيء. وهكذا تبقى أعيادنا بالنسبة لنا شهادة على قوة الروح، ودليلا على أن شعبا يحب الفرح ويمارسه في قلب المحنة، هو شعب لا يمكن أن تطفأ أنواره مهما اشتدت العواصف.”
احتفال اضاءة شجرة الميلاد في بيت لحم









