جميل عبد النبي*
يتعرض الفلسطينيون في قطاع غزة لأبشع مراحل تاريخهم القديم والمعاصر على حد سواء، فلقد أعادتهم حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على وجودهم لآلاف السنين إلى الخلف، فمنذ آلاف السنين كانت غزة عامرة بالبيوت، والطرقات، وكل مقومات الحياة، التي جعلتهم في كثير من المراحل في موقع متقدم، ليس فقط على جوارهم من المدن العربية، بل على بعض الحواضر المعاصرة التي باتت مركزاً للحضار والرقي.
إحدى أكبر مشاكل هذه الحرب المجنونة أن صوت الغزيين الحقيقي لا يسمعه أحد، فالعالم ينظر لغزة من بوابات الإعلام، لا من بوابة الواقع الحقيقي، وليس هناك في هذا العالم إعلام محايد، لا أحد يهتم بالحقيقة كما هي، وكما يعيشها المساكين هنا يومياً، إنما يتنافس الإعلام الموجه على عرض الصورة التي تريدها الجهة التي تقف خلفه، والفلسطينيون في غزة ضائعون بلا صوت حقيقي يمثلهم، ضائعون على الأغلب بين اتجاهين إعلاميين، كلاهما لا يعرض الحقيقة كما هي، إنما يعرض منها الصورة التي سيستغلها لتحقيق غاياته، الأول يمثل حماس، ومن خلفها حركة الإخوان المسلمين، وقناة الجزيرة، وبعض القنوات الكبيرة التي تديرها قطر، والثاني يمثل إسرائيل، ومن خلفها داعميها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
الأول يصوّر حماس كقوة حقيقية قادرة على مواجهة إسرائيل، وربما كل داعميها معها، رغم أن كل ما استطاعت حماس أن تجمعه من السلاح البدائي لم يفلح إلا في تحقيق الضربة الأولى، في غفلة تبين فيما بعد أنها مصطنعة، ثم سرعان ما انهار تماماً أمام آلة الحرب المتوحشة التي تمتلكها إسرائيل، لم يكن الإعلام الحمساوي وداعموه يقولون الحقيقة حول قوة حماس الحقيقية، ولم يكن خطابهم موجهاً إلى الداخل الغزّي أصلاً الذي يعرف حقيقة البون الشاسع بين قوة مجرد تنظيم، وبين دولة حديثة ترعاها كبريات الدول العالمية، إنما موجه للشعوب العربية والإسلامية المتعاطفة مع الحالة الفلسطينية، الكارهة للغطرسة الإسرائيلية، وللاحتلال الإسرائيلي، ما يدفعها تجاه التعاطف مع أي حالة مقاومة لهذه الغطرسة، هذا الخطاب الذي يلعب على أوتار هذا التعاطف الشعبي، يجلب أكبر قدر من الدعم المالي لحماس وحركة الإخوان، ويمهد الطريق كما تظن حماس أمامها للسيطرة على التمثيل والقرار الفلسطيني، ومن المسلم به أن القضية الفلسطينية هي أم القضايا العربية، ومن يمتلك زمامها يصبح طرفاً رئيسياً في المنطقة، يمكنه استخدامها لتحقيق منجزات حزبية في قضايا أخرى في المنطقة.
الثاني الذي يمثل إسرائيل يدرك حقيقة كذب الإعلام الأول، ويدرك أن حماس وكل سلاحها هو مجرد صفر أمام آلته الحربية، لكنه يجد ضالته في ادعاء إعلام حماس، ليقول للعالم: إنه لا يواجه شعباً أعزلاً، إنما قوة منظمة، قوية، قادرة على إلحاق الضرر بإسرائيل، وربما تهدد وجود إسرائيل، وأن حماس تمثل كل الفلسطينيين، خاصة في غزة، وهو يعرف كل الحقيقة في هذه المسألة تحديداً، فحماس لم تكن يوماً ممثلة للكل الفلسطيني، لا في كل فلسطين، ولا في غزة، حماس في عز مجدها- وأقصد هنا في أوج قدرتها على خداع الفلسطينيين- لم تكن تمثل أكثر من خمس الفلسطينيين، لكن تفتت الجهات المنافسة لها، وشكل النظام الانتخابي الفلسطيني جعلها تحصل على الأغلبية في انتخابات عام 2006, وإسرائيل تعرف سبب هذا الفوز الحمساوي، وربما أرادته للتنصل من استحقاقات عملية السلام مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، لكن هذه الأغلبية التي صوتت في الأصل ضد فتح وليس مع حماس سرعان ما انفضت من حول حماس، بعد أن شاهدت نموذجها في حكم غزة، ومقامراتها المتكررة في الحروب مع إسرائيل، وما أن بدأت حرب 2023 حتى انفض عنها كل الغزاويون، ربما إلا بعض منتسبيها، حماس لم تعد أبداً ممثلة لكل الغزيين، ولا لعشرهم، وكل الغزيون الآن لا يؤيدون حماس، ويتمنون التخلص من كابوسها، مرة أخرى إسرائيل تعرف هذه الحقيقة، فهي تتابع أدق تفاصيل الحياة الفلسطينية، لكنها تواصل زعمها بأن كل الفلسطينيين في غزة حمساويون، وأن حماس قوة عسكرية كبيرة تهدد وجود إسرائيل، وأهدافها واضحة بهذا الخصوص، فهي لم تعد الآن تقاتل حماس وحدها كما تدعي، إنما تقاتل الوجود الفلسطيني، تدمر بشكل منهجي كل مقومات الحياة الفلسطينية، تدمر البيوت، الطرقات، المستشفيات، البنى التحتية، شبكات المياه والكهرباء، وتقتل أكبر قدر ممكن من المدنيين، بحجة استهدافها لبعض أعضاء حماس، مع أن إسرائيل تستطيع- لو أرادت- تجنب المدنيبن من خلال آلاتها العسكرية الدقيقة، لكنها تقتل عن عمد.
تمارس إسرائيل تجويع الفلسطينيين بشكل ممنهج، ومع ذلك تزعم أن الجوع مجرد إشاعة حمساوية، ومرة أخرى تكذب إسرائيل بهذا الخصوص، فلقد منعت دخول كل أنواع الطعام لأكثر من ثلاثة أشهر متتالية، وحينما سمحت بدخول بعض الطعام تحت الضغط الدولي، لم تدخل ما يسد حاجة الفلسطينيين في غزة، ولا ثلث حاجتهم، ولا زالت تصر على ما تسميه التوزيع الذاتي للمساعدات، حيث تفرض على الجوعى بأن يأتوا إلى مناطق قريبة من أماكن تواجد آلياتها، وهناك تطلق النار بشكل عشوائي بحجة تفادي خطر الجوعى، فتقتل العشرات منهم يومياً.
لا تزال اللحوم بكل أشكالها ممنوعة من دخول غزة، ومثلها كل أنواع الفواكه إلا بقدر يسير يجعل أسعارها تفوق قدرة الفلسطينيين على شرائها، البيض ممنوع نهائياً، أدوات التنظيف التي أدى غيابها لانتشار العديد من الأمراض الجلدية.
الفلسطينيون في غزة ضائعون الآن، لا بيوت تأويهم، وصاحب الحظ السعيد هو من يجد خيمة ممزقة ينصبها وسط أي طريق، حتى ولو كان إلى جانب مجمع للنفايات، لا طعام كافي، لا مياه صالحة للشرب إلا بشق الأنفس، مياه الصرف الصحي تجري من بين خيامهم، شبح الموت يلاحقهم في كل زاوية من زوايا غزة، يومياً هناك استهدافات لمن تسميهم إسرائيل مطلوبين لها، حتى في المناطق التي تزعم إسرائيل أنها مناطق إنسانية، وفي كل استهداف يسقط مدنيون كثر، أطفال، ونساء، وشيوخ كبار في السن، ولا تزال إسرائيل تزعم أن حربها فقط ضد حماس، لكن الحقيقة أبداً ليست كذلك.
يتجاهل إعلام إسرائيل نكبة الفلسطينيين المدنيين متعمداً، والعالم يقف متفرجاً، ولا يبحث عن الحقيقة حتى لا تضغط على ضميره، ويكتفي بالروايات الرسمية، حتى يبرر صمته تجاه أكبر مجزرة بشرية في العصر الحديث، تتساوى حرفياً مع الهولوكوست النازي، نفس العالم الذي أدان النازي هو ذاته من يصمت صمت القبور عن الهولوكوست الفلسطيني.
سيسجل التاريخ أن شعباً مسالماً مسكيناً تم ذبحه حرفياً على مرأى من عالم يزعم تقديسه للحياة الإنسانية.
- ناشط فلسطيني مقيم في غزة
