تغريد سعادة
ياسر عرفات (أبو عمار) الرجل الذي استطاع أن يقود الثورة الفلسطينية على مدار عقود، لينقلها من حركة تحرر وطنية إلى نواة لمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.
في يوم الحادي عشر من نوفمبر من عام 2004، رحل أبو عمار بعد حصار امتد نحو ثلاث سنوات في مقره برام الله، محاطا بالدبابات والمجنزرات وجنود الاحتلال. عاش أيامه الأخيرة سجينا صامدا، لا يساوم على القرار الفلسطيني المستقل، ولم يتراجع عن ثوابت الشعب الفلسطيني، فدفع حياته ثمنا لذلك الموقف.
لقد شكل أبو عمار منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية رمزا للوحدة الوطنية، وأيقونة جمعت الفصائل الفلسطينية تحت علم واحد، هو علم فلسطين.
حاولت القوى الكبرى تطويعه وإخضاعه، لكنه واجه الحصار الإسرائيلي بإرادة لا تلين، ورفض أن يوقع على أي اتفاق ينهي حلم الفلسطينيين في العودة والحرية والاستقلال.
منذ بدء حصاره في المقاطعة عام 2002 وحتى لحظة استشهاده في تشرين الثاني/نوفمبر 2004، كان واضحا أن الهدف من ذلك الحصار لم يكن سياسيا فحسب، بل اغتيال بطيئ لقائد أراد أن يبقي القرار الفلسطيني حرا، بعيدا عن أي وصاية أو تبعية إقليمية.
ورغم مرور السنوات، لم تكشف الحقيقة الكاملة حول ظروف استشهاده. فالتحقيقات التي أُجريت في فرنسا وسويسرا وروسيا أشارت إلى احتمال تعرضه للتسميم بمادة البولونيوم المشع، غير أن الملف ظل مغلقا.
ولد الرئيس الراحل محمد ياسر عبد الرؤوف داود سليمان عرفات القدوة الحسيني في القدس في الرابع من آب/أغسطس عام 1929. وتلقى تعليمه في القاهرة، وشارك ضابطا في الجيش المصري خلال العدوان الثلاثي عام 1956. درس في كلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، وانخرط منذ شبابه في بعث الحركة الوطنية الفلسطينية عبر نشاطه في اتحاد طلبة فلسطين، الذي ترأسه لاحقا.
في الخمسينيات، شارك مع مجموعة من الفلسطينيين في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، وأصبح ناطقا رسميا باسمها عام 1968، ثم انتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في شباط/فبراير 1969، خلفا لأحمد الشقيري ويحيى حمودة.
وفي عام 1974، ألقى خطابه الشهير في الأمم المتحدة قائلا: “جئتكم أحمل غصن الزيتون بيد، وبندقية الثائر باليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي.” كان ذلك أول اعتراف دولي رسمي بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.
قاد عرفات المقاومة الفلسطينية في بيروت عام 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، وحوصر أكثر من 80 يوما قبل أن يجبر على الخروج إلى تونس مع قواته، في واحدة من أقسى مراحل النضال الفلسطيني.
ثم وقع اتفاق أوسلو عام 1993 مع إسحاق رابين برعاية أمريكية، معترفا بإسرائيل مقابل اعترافها بمنظمة التحرير. وأتاح الاتفاق تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وعودة عرفات إلى أرض الوطن بعد عقود من المنفى.
في عام 2000 اندلعت انتفاضة الأقصى بعد اقتحام أريئيل شارون للمسجد الأقصى، ورفض عرفات حينها كل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لتصفية الانتفاضة أو تقديم تنازلات سياسية.
وفي عام 2002 حاصره الجيش الإسرائيلي في مقر المقاطعة برام الله لأكثر من ثلاث اعوام، دمر مقراته ومنعه من السفر للعلاج. بقي صامدا في غرفة بسيطة، يخاطب شعبه عبر الراديو والتلفزيون، مؤكدا تمسكه بالمقاومة ورفضه الاعتراف بإسرائيل كـ”دولة يهودية”.
وفي خريف 2004، تدهورت حالته الصحية، فقرر الأطباء نقله إلى فرنسا للعلاج، حيث أدخل إلى مستشفى بيرسي العسكري في باريس. ومع تزايد الحديث عن احتمال تعرضه للتسمم، أسلم الروح فجر الخميس 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004.
وبعد أكثر من عقدين على رحيله، ما زال الشعب الفلسطيني يرى في استشهاد أبو عمار رمزا لاغتيال القرار الوطني الحر، ومحاولة لإجهاض مشروع التحرر والاستقلال. عرفات، الذي غادر جسدا وبقي رمزا خالدا لشعب ما زال يقاوم ليحيا بحرية وكرامة على أرضه.
103 Total Count
