علي العامري
تبدو الكتابةُ نسجاً في أحد جوانبها. أشكال متنوعة للحروف تتكاثر في فضاء الورقة، أو أي فضاء آخر. وتبدو الكتابة العربية مثل لوحة فنية منسوجة، خصوصاً لدى القارئ الآخر. وقد عبّرت عن ذلك الشاعرة الكورية، هوانغ إن سوك، عندما تصفّحتْ كتابي “فلسطينياذا” أثناء حوار جمعنا في مقهى بمدينة سيئول، في شهر سبتمبر/ أيلول 2024. لاحظتُ دهشتَها وفرحَها في الوقت نفسه، وهي تمعنُ النظرَ في الكلمات العربية المطبوعة بحبر أسود على بياض الورق. قالت إن الكتابة العربية تبدو لي مثل رسومات ساحرة. نعم هي كذلك، فالحرف رسم تجريدي له ماضٍ تصويري، وللخط العربي جماليات فائقة من حيث التكوين والمنحنيات والامتدادات والفضاءات والتعاشق بين الحروف والنقط وحركات التشكيل، حتى ليبدو الخط موسيقى.
في مناسبة أُخرى، أتيحت لي رؤية نموذج من التدوين بالحبال أو الخيوط المعقودة، كان معروضاً في جناح جمهورية بيرو بمعرض غوادالاهارا الدولي للكتاب في المكسيك، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. كان ذلك النموذج، بالنسبة لي، كأنّه عمل فني تركيبي معلّق في فضاء الرواق، إذ إنّ حضارة الإنكا، قبل تسعة قرون، ابتكرت نظام الـ “كيبو” المعتمد على عُقَد في الحبال، ليكون بمثابة “أبجدية” للتواصل وحفظ البيانات ونقل القصص.
تذكّرت ذلك، أثناء زيارة معرض “ما تبقّى لكم” ضمن سلسلة معارض “صلة”، في مركز مرايا للفنون في القصباء بمدينة الشارقة. بدءاً من عنوان المعرض المأخوذ من عنوان رواية “ما تبقّى لكم” للأديب الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني، والمنشورة عام 1966، أخذتني الأعمال الفنية إلى الكتابة بالخيط والإبرة، عبر التطريز الفلسطيني الذي يعبّر عن جمال فلسطين، وعمقها التاريخي والأسطوري، وصمود شعبها وارتباطه بأرضه، على الرغم من الاحتلال الصهيوني الذي بدأ في النكبة عام 1948، ولا يزال يواصل الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في غزّة.
كلّ غُرزة هي حكاية فلسطينية. كلّ قُطبة هي معنى للصمود. وكلّ لونٍ هو ارتباط بالأرض والشجر والحجر والنهر والبحر والبيت. كلّ خيط هو أملٌ متماسك وذاكرة متواصلة. كلّ رمز هو معنى للوجود العميق. كلّ شكل يمثّل مفردة في سردية فلسطين التي قدّمت السنبلة الأولى إلى البشرية، خلال الحضارة النّطوفية التي أخذت اسمها من وادي النّطوف شمال غرب القدس. كما قدّمت فلسطين صبغة الأرجوان الملكي التي استخرجها الكنعانيون من صَدَفة المريق البحرية (الموريكس). ولا يزال هذا اللون يواصل سيرته الأولى في ثوب المرأة الفلسطينية الذي تتلألأ فيه النجمة الكنعانية ثمانية الأشعة، مع شجر السرو والهلال وزهر الدّحنون وأوراق الزيتون وزهر البرتقال والنخلة والصليب والنجوم وسنبلة القمح والقمر. كلّ ثوب هو كونٌ كاملٌ، يجمع الأرض والسماء والحلم بالعودة إلى البيت الكبير من النهر إلى البحر.
في معرض “ما تبقّى لكم” الذي يقام من 21 سبتمبر/ أيلول 2025 حتى الخامس من يناير/ كانون الثاني 2026، يُعرض فيلم وثائقيّ عن الجدّات والأمّهات، المؤرِّخاتِ لسيرةِ فلسطينَ وعاصمتها القدس، بالخيط والإبرة. وفي الفيلم تظهر امرأة فلسطينية تروي حكايتها مع التطريز، لتختتم حديثها بقولها البليغ “أنا أقاوم بالإبرة”.
عن مجلة كتاب بالشارقة







