تغريد سعادة
تمتلك كرة القدم الفلسطينية تاريخ عريق أقدم بكثير مما يظنه كثيرون. فمنذ تأسيس أول اتحاد فلسطيني لكرة القدم عام 1928، كانت فلسطين من أوائل الدول العربية التي تنضم إلى الفيفا. وتمتعت لعبة كرة القدم بانتشار واسع في مدن القدس ويافا وغزة وحيفا، قبل أن تؤدي النكبة إلى تفكك البنية الرياضية كما تفكك المجتمع نفسه.
وعلى مدى عقود، ظلت كرة القدم حاضرة في المخيمات والشتات كأداة للحفاظ على الهوية، قبل أن يعود المنتخب الفلسطيني رسميا إلى الساحة الدولية عام 1998 بعد الاعتراف به من الاتحاد الدولي.
لكن عودة المنتخب لم تكن سهلة. على عكس بقية المنتخبات، لعب “الفدائي” تحت الاحتلال، في بيئة معدومة الاستقرار، و ملاعب معرضة للدمار بسبب الحروب، و لاعبين يمنعون من السفر أو يعتقلون، و معسكرات تلغى بسبب الإغلاقات، وصعوبة إقامة دوري منتظم. هذه الظروف جعلت كرة القدم الفلسطينية استثناء عالمي؛ منتخب يقاوم ليعيش أولا، ثم يحاول أن يلعب.
وفي الحرب الاخيرة على غرة تعرضت الحركة الرياضية نفسها لإبادة موازية لما يتعرض له الشعب الفلسطيني. ووفقا لاحصائيات نشرها الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، خلال فترة حرب الإبادة، ان نحو 467 لاعبا من لاعبي كرة القدم استشهدوا، إضافة إلى تدمير أكثر من 289 منشأة رياضية، واختفاء آثار 119 رياضيا، واعتقال 29 آخرين، وإصابة 43 رياضيا، إلى جانب استشهاد 15 من الإعلاميين الرياضيين.
ولو لم يكن الاحتلال حاضرا في كل تفصيل من تفاصيل المشهد الرياضي، لكان المنتخب الفلسطيني اليوم في مكان آخر، ينافس ويحقق إنجازات أكبر، مستندا إلى موهبة واضحة وقاعدة جماهيرية واسعة.
وسط هذا التاريخ المليء بالتحدي، جاء تأهل المنتخب الفلسطيني الأخير في كأس العرب ليكون نقطة ضوء نادرة لشعب يعيش تحت القصف والمعاناة اليومية. لكن المفارقة أن هذا التأهل، بدل أن يكون مناسبة عربية للفرح والدعم، تحول إلى مصدر جدل كبير، خصوصا في تونس، حيث شن بعض المشجعين حملة هجوم غير مسبوقة على المنتخب الفلسطيني بعد تعادله مع المنتخب السوري. وصل الأمر بالبعض إلى التشكيك في نزاهة المباراة واتهام المنتخبين بالتواطؤ لإقصاء تونس وقطر، رغم غياب أي دليل، ورغم أن المباراة لم تحمل ما يدعم هذه الرواية. وتجاوز الجدل حدود الرياضة، إذ اعتبر بعض الغاضبين أن المنتخب الفلسطيني كان عليه ألا يشارك في البطولة “من باب الوقوف مع شعبه”، وكأن اللاعبين الذين يعيش كثير منهم واقع الاحتلال يوميا لا يمثلون شعبهم في كل مباراة يلعبونها.
الصدمة الأكبر أن منتخبا ولد من صلب المعاناة، ويحمل اسم فلسطين يواجه الإبادة، يجد نفسه لاول مرة هدفا لهجوم عربي بسبب كرة قدم. كيف يمكن أن تصبح نتيجة مباراة أهم من فلسطين؟ وكيف تحجب كرة القدم، ولو لحظة، حجم الألم الذي يحاول لاعبو المنتخب الفلسطيني تخفيفه عن شعبهم عبر انتصار صغير؟
إن هذا الجدل لا يغير من حقيقة واحدة أن المنتخب الفلسطيني هو أحد أكثر منتخبات العالم تعرضا للظلم، ومع ذلك يستمر في اللعب، وفي منح شعبه ما يشبه الفرح. فهو ليس مجرد فريق، بل إعلان دائم بأن الفلسطيني موجود ويقاوم، حتى في الملاعب وعلى العشب الأخضر، وبانتظار تأهله للنهائي، بعد ان حسم صدارة مجموعته في بطولة كأس العرب والتأهل لدور الثمانية.
