قصته مع السمان لم تكن سرا، وصديقه الاقرب بسام ابو شريف
يحب الرسم وهو من صمم شعار الجبهة
كان ينزوي في مطعم الصخرة في بلدة شعلان للكتابة، وله رؤية لضم جماعات يهودية للثورة
اجرت اللقاء تغريد سعادة / رئيسة التحرير
الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في 8-7-1972 بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، لبنان. استشهد في عمر 36 عاما . وكنفاني ولد في عكا نيسان عام 1936.
وهو أحد أشهر الكتاب والصحفيين العرب في عصرنا. وأصدر حتى تاريخ استشهاده ثمانية عشر كتابا. وتُرجمت معظم أعماله الأدبية إلى سبع عشرة لغة، ونشرت في أكثر من 20 بلدا، وتم إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة. اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين.
كان كنفاني عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- نالها بعد استشهاده، ورئيس تحرير مجلتها “الهدف”، وناطقا رسميا باسمها ومسؤولا عن نشاطها الإعلامي.
“زيتون نيوز” التقت صديقه ونائبه في مجلة ”الهدف“ عدنان بدر والمعروف ايضا باسم عدنان بدر حلو ، لتسآله عن الجوانب الشخصية لكنفاني، ويكشف عن الكثير منها، وعن رؤيته وفهم فكرة الاتصالات مع جماعات يسارية اسرائيلية وانضمامها للثورة، وعن عاداته وهواياته، وامور اخرى، لنعرف اكثر عن الشخص الذي لازال حيا عند كل الفلسطينيين وكل الاجيال، وكان اللقاء التالي:
س- كان مقهى “الدولشي فيتا” في لبنان هو اللقاء الأول لك مع غسان كنفاني. في أي عام كان؟ وكيف بدأ وما هي ظروفه؟
ج- سؤالك هذا يفتح موضوعا بالغ الأهمية، وربما لا يكون المجال (في مقدمة هذا الحوار) ليتسع له. مع ذلك سأحاول أن أتناوله بقدر ما أستطيع من الإيجاز لأنه يشكل قاعدة لكثير من الأمور التي ستمر معنا لاحقا.
بعد الزلزال الذي أحدثته هزيمة حزيران عام 1967 تمحورت الحياة السياسية العربية حول أمرين:
الأول: هو بروز ظاهرة العمل الفدائي الفلسطيني واستقطابها لاهتمام العالم العربي كله وتهافت الشباب من كافة أرجاء ذلك العالم على التطوع في المنظمات الفدائية.
والثاني: هو تعاظم النقمة الشعبية العربية ضد الأنظمة المسؤولة عن تلك الهزيمة.
وقد نجم عن ذلك تياران متعاكسان: تيار جماهيري ينظر إلى إسرائيل كعدوان على المنطقة العربية كلها وخطر يتهددها في جميع أقطارها (لا في فلسطين فحسب). وينظر بالتالي إلى العمل الفدائي الفلسطيني كمشروع ثورة عربية للتصدي لهذا الخطر الداهم على طريق إزالة آثار العدوان والاستمرار في النضال من أجل تحرير فلسطين. وكان هذا التيار يحمّل المسؤولية كاملة للأنظمة العربية وفي مقدمتها الأنظمة التي كانت ترفع شعارات التحرير. (على اعتبار الأنظمة الأخرى متهمة أصلا).
أما التيار المعاكس (وهو الذي تقوده الأنظمة العربية ومؤيدوها) فكان يرى في العمل الفدائي الفلسطيني دريئة يحاول أن يحتمي بها عن المحاسبة على ما اقترفه من خذلان وما “أنجزه” من هزيمة.. فيتخذ من احتفالية “دعمه ” للعمل الفدائي فرصة لرمي مسؤوليات القضية على الشعب الفلسطيني وحده. بدعوى أن هذا الشعب قد “نجح” بعد هزيمة حزيران في استعادة زمام قضيته وتولي مسؤوليتها بيديه. وقد انطلت هذه الدعاية الجميلة على قطاع واسع من الأوساط الفلسطينية، لاسيما البرجوازية المرتبطة عضويا بالأنظمة العربية والمتداخلة مع برجوازياتها والمتحلقة حول منظمة التحرير، والتي كان يجذبها المثال الجزائري حيث حرر الشعب وطنه بقوته الذاتية معتمدا على دعم الشعوب العربية (بدلا من المثال الفيتنامي الذي انخرط فيه الشعب الفيتنامي كله في شمال البلاد كما في جنوبها في معركة التحرير).
عام 1969 كنت في بيروت أتابع مشروعا دراسيا جديا (السنة الأخيرة في قسم الكيمياء بجامعة هايكازيان) بعد أن عطلت ظروف سياسية وعائلية أكثر من مشروع سابق. إذ كنت من نشطاء حركة الاشتراكيين العرب المعارضة في سورية. وكنت مثل كل الشباب العربي آنذاك من المتابعين بحماس لنهوض العمل الفدائي الفلسطيني إلى أن نضجت لدي فكرة التخلي عن الجامعة والالتحاق به. فقررت زيارة الأهل في سورية لوداعهم قبل الإقدام على ذلك، وبعد وصولي بيومين إلى بلدتنا مشتى الحلو تعرض بيتنا لمداهمة من قبل أجهزة الأمن ما اضطرني للتسلل مرة أخرى إلى لبنان.
بعد هذه العودة بأيام قليلة، أي قرابة العشرين من شهر آب، كان لقائي الأول مع غسان كنفاني. وكان قد سبقه بأيام لقاء آخر مع الرفيق نايف حواتمة. وقد لعب الرسام الفلسطيني الصديق نبيل أبو حمد الدور الأساس في اللقاءين. فهو صديق لكليهما وكان يعمل كمخرج فني لمجلة “الحرية”.
كانت “الدولشي فيتا” ملتقى للمثقفين والسياسيين والصحافيين اللبنانيين والعرب. وعند دخولنا في تلك العصرية أشار نبيل إلى وجود غسان وكانت برفقته صديقة دانماركية. واقترح أن ننضم إليهما فطلبت منه أن يستأذنهما أولا. وعندما فعل رحب غسان بنا وكانت الجلسة الأولى حيث دار حديث طويل حول الأوضاع العربية كلها. وقد شدني في غسان تركيزه الشديد على وجوب استيعاب دروس الهزيمة ومراجعة أخطاء المرحلة الماضية التي ارتكبتها الأحزاب الوطنية والقومية والتقدمية والتعامل بجد لتجاوز الحالات الشاذة التي كانت قائمة فيما بينها. وعندما تطرق للجبهة الشعبية أشار إلى أنها مشروع مفتوح أمام كل التقدميين العرب ليتفضلوا ويسهموا في إنضاج هذه التجربة بكل ما لديهم من طاقات وأفكار.
امتدت جلسة التعارف تلك لفترة غير قصيرة أبدا.. وقد دعاني في ختامها لزيارته في “الهدف” التي كان قد صدر منها عددان أو ثلاثة. ولم يمض سوى أقل من أسبوع حتى كانت الزميلة رضى سلمان المحررة معه في المجلة تتصل بي وتكرر لي دعوة غسان لزيارته في المكتب.
خلال تلك الزيارة، ومن ضمن الحوار سألني عن أوضاعي ومشاريعي ففاتحته بأن لدي رغبة جدية بالانضمام إلى العمل الفدائي. فقال (بما بين المزح والجد) نحن الآن في صلب العمل الفدائي. ما رأيك في أن تنضم إلينا ونخوض هذه المعركة معا!!
فوافقت وهكذا كان.
طلب مني كتابة موضوع عن قمة عربية مصغرة كانت قد عقدت آنذاك في ليبيا. فلبيت الأمر وأعطيته الموضوع، لأفاجأ به بعد ثلاثة أيام منشورا كافتتاحية في العدد الجديد من “الهدف”.
بدايه الصداقة معه
س- عملت معه لسنوات في مجلة “الهدف” التي كان رئيسا لتحريرها، كم سنة عملت معه بالضبط؟
ج- من أيلول 1969 حتى الثامن من تموز 1972. وقد كلفني بأن أكون نائبا له منذ العدد الأول الذي ساهمت فيه. وكان أمرا غريبا أن كيمياء صداقة ومودة وتفاهم قد ربطت بيننا على الفور واستمرت طوال فترة عملنا معا. وبقيت في هذا الموقع حتى شهر آب 1976 عندما دخلت قوات الردع العربية إلى لبنان وبدأت تتقدم نحو بيروت فكلفني الحكيم جورج بالخروج من أجل التواصل مع قادة المعارضة السورية في بغداد وباريس والجزائر والبحث معهم حول الموقف من الصدام الذي كان قد بدأ بين تلك القوات وبين منظمات المقاومة. طبعا هذا موضوع آخر.
دمثا ولطيفا ومنضبطا
س- كيف كان العمل معه؟ وما هي الصفات التي يتمتع بها غسان على الصعيد الشخصي خلال العمل، هل هو هادئ منفعل عصبي مبتسم…..؟
ج- كان كل من يعمل في “الهدف” (في التحرير أو الإدارة) يشعر بكل صدق أنه يعمل عند نفسه. هذا لا يعني أنه لم يكن هناك ضبط. بل على العكس هو دليل على كفاءة ضابط الإيقاع لتلك الجوقة من العاملين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم.
كان ثمة خليط من الجنسيات العربية المجتمعة في تلك المساحة الصغيرة. فإلى جانب الفلسطينيين كان هناك لبنانيون وسوريون وعراقيون وخليجيون وتوانسة. ومن انتماءات حزبية متعددة.
كان غسان قادرا وبمنتهى اللطف والدماثة على احتواء الجميع والتنسيق فيما بينهم واستخلاص ما لديهم من القدرة على العطاء بدون أي ضجة.
كان يعمل أكثر من كل واحد منا. يأتي إلى المكتب قبل الجميع، ويغادر بعدهم. عندما يكون قد تأكد من أن كل المهمات التحريرية والفنية وحتى الحزبية قد أنجزت بشكل كامل وسليم. كان يشركنا في كل شيء.. حتى الأكل كنا نتناول الغداء معا كعائلة في مطعم صغير تحت المكتب تعمل فيه عائلة لبنانية جنوبية. وحتى عندما يأتيه ضيوف إلى البيت (وكثيرا ما يكونون من الأجانب نتيجة سعة اتصالاته هو وزوجته آني الدانماركية) كان يدعونا للقاء معهم في منزله.
وعند نهاية يوم الجمعة حيث يتم اختتام العدد واستكمال إرساله إلى المطبعة ليصدر صباح السبت كان يدعونا للذهاب معا إما إلى أحد مقاهي بيروت للقاء مع أصحاب آخرين أو حتى إلى نزهة في المناطق الجبلية من لبنان. وكان يرتاح لمكان معين هو مطعم الصخرة في بلدة شملان الذي كان يصعد إليه في زمن ماض بالبوسطة حيث ينزوي ويمارس كتابة بعض قصصه بهدوء.
وكان حريصا، عندما نصعد معه إلى شملان، أن نقوم بزيارة الأستاذ أحمد الشقيري في منزله هناك. وتكون لنا جلسة غنية جدا مع التاريخ.
وكان يدهشني فيه مقدار ثقته بالعاملين معه وما يمنحهم من فرص للتعلم والتطور وإنجاز مهمات لم يكونوا يعتقدون أنهم قادرون عليها. وهذا يعود باعتقادي إلى مدى ثقته بنفسه.
على صعيد السلوك الشخصي كان غسان (الشاب الوسيم بشكل ملفت) دائم الابتسام، إنما كانت ابتسامته ودودة وهادئة في آن واحد. وكان لديه أسلوب من السخرية أقرب ما يكون إلى فن الكاريكاتور وكان يستخدمه في التعامل مع العاملين عندما يقعون في خطأ ما.
النساء في حياته
س- هو مفكر وثائر ومناضل. وله جانب إنساني آخر. ذكرت في كتابك “مطار الثورة“ عن حبه للتواجد مع حسناوات والاستعراض أمام معارفه في المجلة والمقاهي. لكنك لم تحدثنا عن علاقته بغادة السمان، خاصة وإنها نشرت رسائل حب بينهما؟ ماذا تعرف عن علاقتهما؟
ج”- أشرت فيما تقدم إلى أن غسان كان شابا وسيما بشكل ملفت، وكان في الوقت نفسه محدثا ذا كاريزما مدهشة. ولا يختلف الأمر سواء كان الحديث في الشأن العام أم في الشؤون الشخصية والخاصة. وكانت هذه الصفات جاذبة بالتأكيد للجنس اللطيف، وبما أن تلك الفترة كانت تشهد تدفقا لا نظير له من قبل الصحافيين والمتطوعين والدارسين الأجانب والأغلبية الساحقة منهم هي من الجنس الأوروبي اللطيف وخاصة من البلدان الاسكندنافية التي نجح غسان وزوجته آني في تحقيق انفتاح كبير عليها، كان طبيعيا أن يظهر حضور مثل هذا التواجد النسائي اللطيف في “طقوس” التردد بعد نهاية العمل على بعض مقاهي العاصمة اللبنانية التي كانت- كما أشرنا- ملتقيات المثقفين والسياسيين والصحافيين اللبنانيين والعرب والأجانب. أما ما ذكرته حول موضوع الاستعراض فهو أقرب للمداعبة مع روح الرفيق والمعلم غسان حتى بعد استشهاده.
بالنسبة للعلاقة مع الأديبة غادة السمان، ليس الأمر سرا فهي علاقة كانت معروفة للجميع، لكنها كانت قد انتهت قبل مرحلة لقائي مع غسان. ولم يحدث أن جرى التطرق لها في أحاديثنا، وعندما كان يأتي ذكر غادة عرضا كان يتحدث عنها بكل ود واحترام. أما نشرها للرسائل فحصل بعد وفاته بفترة غير قصيرة، وكان خطوة جريئة من امرأة شرقية أن تقدم على مثل هذه الخطوة. أما رسائلها هي إليه فمن المحتمل جدا ألا تكون محتفظة بنسخ عنها.
اسمحي لي هنا بإيراد قصة للمقارنة: عندما نشرت الأخت حنان عشراوي مذكراتها وورد في موضع من المقدمة وصفها لي بالصديق العزيز، تم وصفي في ترجمته من الإنكليزية إلى الفرنسية ب “الصديقة العزيزة عدنان بدر”. لأن عالم الاستشراق الغربي لا يتوقع أن تصف امرأة شرقية رجلا بأنه صديقها.
الحل الديموقراطي
س- تحولات فكرية عرضها كتاب “مطار الثورة” لغسان أهمها موضوع الحل الديمقراطي وكتبت أنه يختلف عن طرح “فتح” للدولة الديمقراطية. ماذا كان الاختلاف والخلاف؟
ج- لعل أبرز تطور فكري لاحظته عند غسان وهو ما أشرت إليه في الكتاب كان يتعلق في تقدم هذا التطور لديه في المجال الأدبي عليه في المجال السياسي. معتمدا (في المجال الأول) على روايته “أم سعد” التي يتجلى فيها الفارق الكبير بين الموقف الصلب للمرأة العاملة ابنة المخيم ونموذج الطبقة الشعبية من هزيمة حزيران وردها عليها وبين موقف المثقف المتردد أمام تلك الهزيمة.
مثل هذا التعبير الذي برز صارخا في نص أدبي يعود ليظهر بعد أكثر من ثلاث سنوات في مقال (تحليل سياسي فكري) صارخ التقدم (ربما هو المقال الأخير الذي كتبه قبل استشهاده) وعالج فيه قضية الفدائي الفلسطيني الذي نفذ فيه حكم الإعدام بجريمة اغتصاب امرأة في جنوب لبنان (أعتقد أن المقال كان يحمل عنوان قضية أبو مجاهد!!). والأمر نفسه برز في التقرير الذي كتبه عن المؤتمر الثالث للجبهة بعنوان “مهمات المرحلة”.
أما موضوع الحل الديمقراطي الذي جرى تطويره من خلال عملية التفاعل الدائمة بيننا جميعا في “الهدف” فهو نوع من الرؤية المستقبلية ذات البعدين الجغرافي- القومي والديموغرافي- الطبقي في سياق العملية النضالية لتحرير فلسطين. بالنسبة للبعد الأول كنا نعتقد أن تحرير فلسطين لن يتم قبل أن تتحقق إنجازات جدية في مسألة “هانوي” الثورة الفلسطينية العربية، بعد أن تكون الشعوب في سورية ولبنان والأردن قد تحررت بالثورة وانخرطت فيها (كجزء رئيسي من عملية مواجهة العدو الصهيوني وتحرير فلسطين).. ومن الطبيعي ألا يعود بعد ذلك ثمة مبرر للعودة إلى حدود سايكس- بيكو وتقسيم بلادنا المحررة من جديد. أما بالنسبة للبعد الثاني فإن عملية التحرير ستفرز في مرحلة ما متقدمة تغييرات جذرية وجدية في المجتمع الإسرائيلي نفسه حيث لابد وأن تنسلخ قوى اجتماعية يهودية عن منطق المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي يشكل أداة غربية في عملية السيطرة على المنطقة لتجد مصلحتها في الانخراط ضمن المشروع الثوري الفلسطيني العربي التحرري والمشاركة في بناء هذا الوطن المتحرر الحضاري الذي يتعايش فيه الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس أو غيره.
هذا برأينا كان “الحل الديمقراطي” للمسألتين الفلسطينية واليهودية ضمن الإطار العربي الثوري الأوسع من الخريطة الفلسطينية “الانتدابية”. وهو حل لقضية المنطقة ككل: لتحررها ووحدتها وتقدمها وديمقراطيتها. وهو مختلف تماما وبنيويا عن حل “الدولتين” أو حتى حل “الدولة الواحدة” الذي يقوم على مفاهيم الأنظمة العربية والإسرائيلية التابعة للمنظومة الامبريالية الدولية.