سجل في القائمة البريدية

Edit Template

ياسر عرفات كما عرفته: المناضل والزعيم وصانع الهوية الوطنية

د. أحمد يوسف*

لم يكن لقائي الأول بالرئيس ياسر عرفات (أبو عمار) لقاءً عابراً يمكن أن يطويه النسيان؛ فقد حمل في طياته الكثير من الرمزية والمعاني، وأعاد إلى وجداني ذكريات الطفولة والشباب، يوم كنت أتابع أخباره من بعيد وأتتبع خطواته في مسيرة الثورة.

كان ذلك في واشنطن عام 1997، حين جاء أبو عمار للقاء الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. كنتُ يومها أحد أعضاء لجنة الدفاع عن د. موسى أبو مرزوق – رئيس المكتب السياسي لحركة حماس – الذي اعتقلته السلطات الأمريكية عام 1995. وبعد لقائه الرسمي في البيت الأبيض، طلبنا مقابلته لعرض قضية د. أبو مرزوق، فوافق على الفور، وجلسنا معه في سهرة امتدت حتى ساعات الليل.

ما زلتُ أذكر كيف كان أبو عمار متدفقاً بالحيوية، كأنه في ريعان الشباب. لم يبدُ عليه التعب برغم يومه الطويل المليء باللقاءات الرسمية. تحدث أبو عمار معنا بوضوح وعزم: “أعدكم أنني سأبذل كل ما في وسعي مع الأمريكيين لمنع تسليمه للإسرائيليين، وأن أُغلق هذا الملف نهائيًا.”

ذلك اللقاء ترك في نفسي انطباعاً لا يُمحى. لم أرَ أمامي فقط زعيماً سياسياً، بل أباً حانياً يحمل هموم أبناء شعبه جميعاً، حتى أولئك الذين قد يختلفون معه في الفكر والسياسة. شعرتُ أنني أمام شخصية فريدة قادرة على احتضان التناقضات، وعلى الجمع بين عاطفة الأبوة ودهاء السياسة.

ولعل هذا الحب والتقدير لأبي عمار هو ما شدّني فيما بعد لأن أضع كتاباً عنه بعنوان: “ياسر عرفات.. ذاكرة لن تغيب”، تضمن سيرته الذاتية، ومحطاته النضالية، وما حظي به من احترام حتى في أوساط قادة حركة حماس وشيوخها. وقد نُشر الكتاب في يناير 2016، ليكون شهادة وفاء وتوثيق لرجلٍ استثنائي ترك بصمته العميقة في التاريخ الفلسطيني.

ومن واشنطن، انفتحت أمامي صفحة جديدة من فهمي للرجل؛ فقد كنت أتابع مسيرته عبر الخطب والكتب والصحف. أذكر أنني في مطلع شبابي رأيت أحمد الشقيري – أول رئيس لمنظمة التحرير – يخطب في الملعب البلدي برفح قبل حرب 1967. وبعد هزيمة حزيران غاب الشقيري، ليملأ ياسر عرفات المشهد بقوة. منذ تلك اللحظة صار أبو عمار العنوان الأبرز للقضية الفلسطينية، ورمزها الأثير.

لقد كان الرجل صانع الهوية الوطنية بلا منازع؛ فمنذ أواخر الخمسينيات بدأ يتحرك، بالتنسيق مع بعض العناصر الإسلامية، لإيجاد صيغة نضالية تواجه الاحتلال، حتى انطلقت حركة فتح عام 1965، وتصدرت قيادة منظمة التحرير بعد معركة الكرامة 1968، حيث لمع اسم أبو عمار بوصفه زعيماً لا يلين.

على امتداد مسيرته، منح الفلسطينيين ما هو أبعد من الكفاح المسلح؛ أعطاهم هويةً وعنواناً ورسالة. بكوفيته التي غدت رمزاً عالمياً، وبابتسامته العريضة التي كانت تبعث الأمل في قلوبنا، نقش اسم فلسطين في ذاكرة العالم، وجعلها حاضرةً في كل محفل دولي.

وأذكر أنني في سنوات اغترابي بالولايات المتحدة كنتُ أُسأل عن بلدي، فأجيب: “فلسطين”. فيرتبك السائل أحياناً: “باكستان؟.. أفغانستان؟” فأكرر بفخر: “فلسطين.. القدس.. المسجد الأقصى.. ياسر عرفات.” عندها فقط يومئ برأسه وقد فهم، وكأن عرفات كان هو بطاقة الهوية التي تفتح لنا الأبواب.

لقد كان أبو عمار سياسياً بارعاً يعرف متى يساوم ومتى يقاتل، ومتى يحتضن خصومه ليحوّلهم إلى حلفاء. لم تنسَ الذاكرة الفلسطينية صورته وهو يقبّل جبين الشيخ أحمد ياسين، في مشهدٍ عكس جوهر العلاقة بين فتح وحماس: خلافٌ في الرأي، نعم، لكن دون أن يفسد ذلك ودّ الأخوّة الوطنية.

ورغم كل الصعوبات والخيبات، ظلّ عرفات حاضراً في قلب المشهد، يقود شعبه بين المقاومة والمفاوضة، بين الرصاصة وغصن الزيتون، حتى حُوصر في المقاطعة برام الله، وظل شامخاً حتى آخر لحظة من حياته.

رحمك الله يا أبا عمار.. لقد كنتَ أكثر من زعيم، كنتَ هويةً لشعبٍ وذاكرةً لقضية، وستبقى ابتسامتك وصوتك وحكاياتك ترسم لنا طريق الصمود حتى يكتب الله لشعبنا الحرية والعودة والاستقلال.

*قيادي سابق في مجلس الشورى لحركة حماس، ومستشار اسماعيل هنية، ومدير معهد بيت الحكمة للدراسات وحل النزاعات.

Post Views111 Total Count

تصفح المواضيع

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Ethical Dimensions in the Digital Age

The Internet is becoming the town square for the global village of tomorrow.

الأكثر قراءة

هاشتاغ

عن زيتون نيوز

زيتون نيوز موقع اعلامي صادر عن مركز رام للدراسات العربية. مختص بالشؤون العربية في كندا، بالاضافة الى الاهتمام بأهم القضايا في الوطن العربي. وهو موقع مهني تشرف عليه الصحفية تغريد سعادة التي تعمل في الصحافة لما يزيد عن عقدين من الزمان.
يقع المكتب الرئيسي في مدينة ادمنتون / ألبرتا. ويعمل على تقديم تغطية شاملة، لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعرب في كندا. 

آخر الأخبار

  • All Posts
  • About Us
  • English News
  • أخبار
  • تحقيقات
  • ثقافة
  • شؤون الجالية
  • شؤون عربية
  • لقاءات
  • مقالات
  • منوعات
    •   Back
    • About us
    •   Back
    • Art and Cinema
    • Interviews

أقسام

 Zaytoun News © 2024

error: Content is protected !!