تغريد سعادة
في سياق النقاشات المحتدمة حول مشروعية نقد حركة حماس بعد كارثة الحرب على غزة، وطوفان الاقصى في السابع من اكتوبر 2023، يروج البعض لفكرة أن أي انتقاد للمقاومة هو طعن في ظهرها، أو خيانة لدماء الشهداء.
لكن نظرة فاحصة إلى التاريخ الفلسطيني الحديث تكشف أن المقاومة ليست كيانا معصوما عن الخطأ، وأن النقد من الداخل هو أحد شروط النضج السياسي والبقاء الأخلاقي.
وأبرز من جسد هذا المفهوم هو الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي رغم رمزيته التاريخية وقيادته لحركة التحرر الوطني لعقود، لم يتعامل مع نفسه كـ”نبي سياسي”، بل أقر بالأخطاء في محطات حساسة من النضال الفلسطيني، وفتح الباب لمراجعات علنية.
بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970، بعد الصدام العنيف بين فصائل منظمة التحرير والجيش الأردني، الذي أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من الفلسطينيين، اعترف عرفات بأن منظمة التحرير ارتكبت أخطاء بالتعامل مع الوضع الداخلي الأردني. وفي تصريحات لاحقة، عبر عن الأسف لاستخدام السلاح داخل بلد عربي، وقال إن “الوجود الفلسطيني في الأردن تجاوز أحيانا القواعد”.
هذا التصريح كان بمثاية إدراك سياسي بأن المقاومة يجب أن تراجع نفسها، لا أن تتمادى في الخطأ.
وايضا مع اجتياح إسرائيل للبنان وحصار بيروت عام 1982، واجهت منظمة التحرير الفلسطينية واحدة من أقسى محطاتها.
عرفات اعترف ضمنا بأن العمل المسلح في لبنان افتقر في بعض الاحيان للحكمة السياسية، وأنه لم يقدر التعقيد الطائفي والسياسي اللبناني كما يجب.
وهو ايضا ما عبر عنه لاحقا بقوله: “كان علينا أن نحمي الثورة لا أن نغرقها في حسابات لا نملك مفاتيحها.” وهو ايضا قال: “أخطأنا حين تصرفنا وكأننا دولة داخل دولة.”
تشير بعض الدراسات والمذكرات لقيادات فلسطينية انه حين بدأت الانشقاقات داخل منظمة التحرير، في السبعينيات من القرن الماضي، لم يتعامل عرفات بمنطق التخوين معهم، بل دعا إلى حوارات داخلية، واعترف بوجود خلل في آليات القرار والتوازنات داخل المنظمة. وهذا ما دفعه في جلسات المجلس الوطني، ليعبر عن أسفه لما وصفه بـ”الانفراد ببعض القرارات”، ودعا إلى “وحدة القرار الوطني”.
بعد توقيع اتفاق أوسلو، تعرض عرفات لنقد واسع من الداخل الفلسطيني، وواجه اتهامات بـ”التفريط”.
وفي سنوات لاحقة، خاصة مع فشل المفاوضات واستمرار الاحتلال، أقر عرفات بشكل واضح ان “أوسلو لم يكن نصرا. كان محاولة لانتزاع ما يمكن، ولكن إسرائيل لم تلتزم، وعلينا أن نعيد الحساب.”
وقال أيضًا: “أعطونا دولة، وسأكون آخر من يحمل البندقية. لكنهم أرادوا سلطة دون سيادة.”
هذه التصريحات تؤكد أن عرفات لم يهرب من المراجعة، بل واجه خياراته بشجاعة، دون أن يتنكر للمقاومة. والمقاومة كانت خياره في اشعال الانتفاضة الثانية ومحاولاته الحصول على سلاح من ايران رغم اتهامه بمحصارة المقاومين للمحافظة على الاتفاقيات المعقودة مع الاحتلال. هذا بالمناسبة ما تقوم به حماس ايضا حينما توقع على هدنه مع الاحتلال ، وكانت دوما تحاصر من يحاول اطلاق صواريخ او خرق بنود الهدنة.
وفي خضم الحصار الإسرائيلي له داخل المقاطعة برام الله، قال عرفات أمام نواب المجلس التشريعي، “نحن لسنا معصومين. ارتكبنا أخطاء، وعلينا أن نُصلحها.” كانت هذه لحظة صدق تاريخية، لا ضعف. لأنه فهم أن القائد الحقيقي لا يدافع عن أخطائه، بل يصححها.
في ضوء هذا التاريخ، يصبح السؤال: لماذا يحظر نقد حماس اليوم؟ ولماذا يتحول كل ناقد إلى “خائن” و”عدو للمقاومة”؟
نقد حماس لا يعني الوقوف ضد فكرة المقاومة، بل رفض احتكارها، وتصحيح مسارها.
كما أن المطالبة بالمحاسبة لا تعني الوقوف في خندق الاحتلال، بل في خندق الشعب الذي دفع إلى الموت والتشريد والفقر دون أن يتم استشارته أو يُحمى.
إذا كان ياسر عرفات، بكل ما يمثله من تاريخ ونضال، لم ير نفسه فوق النقد، واعترف بأخطائه وراجع مسيرته مرارا. فهذا هو الدرس لحماس.
وإن السكوت عن الأخطاء باسم “اللحظة الوطنية” أو “حرمة الدم” هو تواطؤ ضد الشعب، لا ولاء له. وإن نقد حماس اليوم ضرورة سياسية وأخلاقية، لا طعن في ظهر المقاومة.
المقاومة الحقيقية لا تخاف من النقد، بل تعتبره بوصلتها الأخلاقية.
