سجل في القائمة البريدية

Edit Template

غزة والحرب: حين يغيب الهروب من الجحيم

تغريد سعادة

في معظم الحروب التي شهدها العالم، تظهر مفارقة إنسانية عجيبة، حيث كلما اشتد الموت، ازداد توق الناس للحياة. في قلب الحروب يولد الضحك، وترفع كؤوس النبيذ، ويعزف على البيانو في أقبية تحت النار. هذه ليست مشاهد من الخيال، بل وقائع موثقة في كتب المقاتلين، وفي مذكرات الصحفيين، والأفلام التي أرخت للحروب الكبرى. لكن غزة، للأسف، لا تشبه شيئا من ذلك.

في سراييفو، المدينة التي حوصرت لسنوات عاصمة البوسنة والهرسك، ظل الناس يتجمهرون في حفلات سرية، يرتدون أفضل ما لديهم من ثياب. يسمعون لفرق موسيقية عزفت في أنفاق مضاءة بالشموع، بينما كانت القذائف تتساقط فوق رؤوسهم.

في بيروت خلال الحرب الأهلية ، كانت المدينة مقسمة طائفيا، ومع ذلك لم تنطفئ أضواؤها ابدا. ظل شارع الحمراء ينبض، و”كازينو لبنان” كان مقصدا حتى لبعض القيادات السياسية والعسكرية، بما فيهم عناصر من الثورة الفلسطينية، الذين وجدوا في أماكن السهر ملاذا نفسيا في الليل قبل أن يعودوا لمواقعهم على جبهة الحرب صباحا. كتب الصحفيان غسان شربل، وسمير قصير، وغيرهم عن مفارقة “العيش الطبيعي وسط الموت المجنون”.

ايضا رصد الروائي إلياس خوري في روايته باب الشمس، تحولات بيروت خلال الحرب، وركز في بعض مشاهده على الحياة الليلية في المدينة، بما فيها البارات والملاهي.

الفن والسينما لم يتجاهلا هذا التناقض بين الحياة والموت في زمن الحرب. فيلم عازف البيانو لرومان بولانسكي، حيث شاهدنا بطل الفيلم، ورغم الجوع والملاحقة في وارسو المحتلة، يعزف البيانو، كأن الموسيقى تحميه من الموت.

وفي الفيلم الكلاسيكي، الدار البيضاء لمايكل كورتيز، ورغم الحرب العالمية الثانية، تظل الحانة مكانا يلتقي فيه الناس للرقص والغناء، كأن لا قصف ولا فوضى تدور في الخارج.

غزة لا تملك هذا الترف. لا مكان فيها للحفلات السرية، ولا للمقاهي الليلية. ليس هناك “كازينو الثورة”، ولا مغنون يموتون تحت الأنقاض. القطاع محاصر من جميع الجهات، في البحر، والبر، والجو. الجميع فيها يعيش تحت القصف، بين الركام، أو في خيمة بلا كهرباء، بلا ماء، وبلا أمل.

في غزة، لا يستطيع احدا الهرب من الجموع، فلا مكان خاصا للتنفيس. ولا صالة مظلمة تحمي الحالمين، ولا لحظة استراحة من كل هذا الجنون. حتى المآتم لا تقام كما ينبغي، إذ يتساقط القتلى بالجملة، بلا وداع. أطفال يموتون جوعا، كما أوردت تقارير منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة إنقاذ الطفولة، التي حذرت من مجاعة شاملة بدأت بالفعل في شمال القطاع. ما يزيد عن 1.2 مليون إنسان، باتوا يواجهون انعدام تام في الأمن الغذائي.

في كل الحروب، كان هناك دوما هامش ما، شارع لا يقصف، حي يغنى فيه الناس، ساعة ينسى فيها الموت. أما في غزة، فلا توجد حتى تلك الاستثناءات. الحرب تسكن وتستوطن كل مكان.

إن الفرق بين غزة وسائر المدن التي شهدت حروبا ليس فقط في عدد الضحايا أو حجم الدمار، بل ايضا في غياب ذلك الفضاء الرمزي الذي يجعل البشر قادرين على الاحتمال.

ما تعيشه غزة اليوم لا يشبه أي حرب، ولا يندرج ضمن أي سيناريو معروف. إنها مأساة خالصة، مجردة من كل عناصر التوازن النفسي والروحي التي عرفها البشر خلال حروبهم السابقة.

Post Views42 Total Count

تصفح المواضيع

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Ethical Dimensions in the Digital Age

The Internet is becoming the town square for the global village of tomorrow.

الأكثر قراءة

هاشتاغ

عن زيتون نيوز

زيتون نيوز موقع اعلامي صادر عن مركز رام للدراسات العربية. مختص بالشؤون العربية في كندا، بالاضافة الى الاهتمام بأهم القضايا في الوطن العربي. وهو موقع مهني تشرف عليه الصحفية تغريد سعادة التي تعمل في الصحافة لما يزيد عن عقدين من الزمان.
يقع المكتب الرئيسي في مدينة ادمنتون / ألبرتا. ويعمل على تقديم تغطية شاملة، لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعرب في كندا. 

آخر الأخبار

  • All Posts
  • About Us
  • English News
  • أخبار
  • تحقيقات
  • ثقافة
  • شؤون الجالية
  • شؤون عربية
  • لقاءات
  • مقالات
  • منوعات
    •   Back
    • About us

أقسام

 Zaytoun News © 2024

error: Content is protected !!