سجل في القائمة البريدية

Edit Template

غسان زقطان.. ذو الرمة الفلسطيني وسليل أسرة شعراء

أوس أبوعطا*

تترقرق أشعار وكتابات الشاعر والصحافي والمناضل غسان زقطان كجدول عميق عتيق من فلسطين إلى كافة أصقاع العالم. من قرية كوبر في قضاء رام الله؛ تنساب المياه البكر من عين القصيدة وغسان مشغول بمراقبة الجبل من النافذة والاطمئنان أنه لم يغادر مكانه كل صباح ولم يسرقه الاحتلال. ثم ينتقل إلى نافذة أخرى يصغي للهاث وطنين النحل، ويستنشق شذا الياسمين ويحصي الفراشات الملونة تنقش على أديم بياضها حروفه المضيئة في الحرش.

غسان هو المنبع والمجرى والمصب الشعري الذي لا يمحل أو يمحى من ذاكرة الكلمات، والمهندس الوفي للموسيقى الشعرية الداخلية باحتراف. ولا آتي بجديد حين أقول إن الشعر العربي نشأ في حضن الغناء والموسيقى، فهو غنائي المنبت، متصل اتصالا كاملا بالموسيقى منذ بداياته، ولهذا كانت القصيدة تكتب على وزن خاص، ولكل قصيدة رنتها الخاصة.

سليل أسرة شعراء

في الغالبية العظمى من مجموعاته الشعرية، تتأبط قصيدة التفعيلة شقيقتها الصغرى والمشاكسة قصيدة النثر ويسيران جنبا إلى جنب بكل ولاء للإيقاع الشعري الداخلي والخارجي وبكل وفاء للإبداع الشعري الفطري حين يكون الإبداع بمواجهة النص، ولا يستتر بالوزن أو القافية. وفي ذات الفكرة، لم يتألق ويتعملق الشاعر الفلسطيني بالشعر فقط، بل بالرواية والسيرة الذاتية، فشعره يعبق بعبير النثر ونثره مسربل بموسيقى الشعر.

فلح غسان في المزاوجة بين عمق الفكرة وفرادة الصورة وبين السيمفونية الخفيفة التي تشكل أرضية للقصيدة وبين رتابة مفردات الحياة والموت في فلسطين.

فكتاباته وفقا للكاتب الأميركي كول سوينسن “تمد اللغة الإنجليزية بحساسيات جديدة” من حيث كونها “قصائد تلتحم بلا هوادة بتفاصيل الحياة اليومية وتقدمها بطريقة يكون فيها الترف، بعد كل شيء، هو السرد المتماسك والقوي للتاريخ.”

غسان ابن الشاعر الراحل خليل زقطان، سليل أسرة شعراء ومثقفين وكتاب، تعود أصوله من قرية زكريا، قضاء الخليل، لكنه ولد في بيت جالا ضاحية بيت لحم عام 1954، وترعرع في مخيم الكرامة للاجئين الفلسطينيين شرقي الأردن، وما لبثت أسرته أن انتقلت به إلى عمّان، ثم انتقل للعمل في المعترك الوطني الفلسطيني وما ترتب على ذلك من إقامة في دمشق وتونس وقبرص واليمن، إلى أن عاد مع العائدين إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو الشهير واستقر في رام الله.

ما يدلل على نبوغ موهبته؛ فاز غسان  بجائزة رابطة الكتاب الأردنيين للشعر عام 1977، حيث كتب الشعر مبكرا ودشن إنتاجه بإصدار مجموعة شعرية بالاشتراك مع محمد الظاهر عام 1977 بعنوان “عرض حال للوطن” ثم تتالت إبداعاته بين شعر ونثر.

وما تجدر الإشارة إليه، أنه لا يوجد أيّ مجموعة شعرية لزقطان تضم قصائد نثرية محضة، فمنها ما هو تفعيلة فقط مثل “رايات” 1984 و”بطولة الأشياء” 1988 و”كطير من القش يتبعني” 2012، التي كانت بمثابة جواز سفره إلى العالمية. أما البقية فهي عبارة عن مجموعات شعرية تضم كلا من قصائد التفعيلة والنثر.

ومن المفيد للذكر، أن غسان أدهش القراء والمتابعين في اللوحة الراقصة “ع الحاجز”. كما له الكثير من المجموعات الشعرية التي سأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “صباح مبكر” 1979، “أسباب قديمة” 1982، “ليس من أجلي” 1992، “استدراج الجبل” 1999، “سيرة بالفحم” 2003، “لا شامة تدل أمي عليّ” 2014، “تحدث أيها الغريب تحدث” 2019، “غرباء بمعاطف خفيفة” 2021، “البلدة التي لم أحدثك عنها” 2022، “ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي” 2023. وله أربعة كتب سردية “وصف الماضي” 1975، “سماء خفيفة” 1990، “عربة قديمة بستائر” 2011، “حيث اختفى الطائر” 2015.

صراحة، يصعب على المهتم إحصاء وتتبع النتاج الغزير والفريد للشاعر غسان زقطان. أضف إلى ذلك، أن أعماله ترجمت إلى لغات عديدة وصدرت مختارات من أشعاره عن جامعة ييل الأميركية ومختارات من أعماله المبكرة عن دار كوبر كانيون في نيويورك ودار سيغل كذلك دار سموكس تاك في لندن.

 حصل زقطان في يونيو عام 2013 على جائزة مؤسسة غريفين العالمية للتميز الشعري. وتم اختياره ضمن القائمة القصيرة لجائزة نيوستاند العالمية للآداب (نوبل أميركا) لدورتين متتاليتين 2014 – 2016 .كما حصل على جائزة محمود درويش للشعر عام 2016 وأيضا على جائزة أنور سلمان للإبداع بلبنان في دورتها الأولى عام 2019.

عاش غسان زقطان طفولته وفتوته في المخيم الذي أرشف ذاكرته بالكثير من صور الألم اليومي لشظف الحياة وقسوتها، ينتظر خروج والده من المنزل ليهرع نحو مكتبته لينهل منها الشعر والرواية وكل أنواع الثقافة، يصل إلى العلم والمعرفة حيث تصل يده الصغيرة للرف الأول والثاني، وفي الثالث سلسلة كتاب الأغاني لصاحبه الأصفهاني ذائع الصيت ظل بعيدا عن المتناول.

عمان، دمشق، تونس، بيروت، لارنكا، صحراء سيئون في اليمن، يحمل غسان منفاه على محياه كشامة واضحة، هذا المنفى الذي قاسى فيه حصار بيروت في مكتب الجبهة الديمقراطية في ساحة الفاكهاني، والذي كلمه فيه الببغاء بعدما مات بقفصه في دمشق في إحدى الصباحات الحزينة وكأنك تستيقظ على خبر وفاة أحد الأصدقاء.

ذو الرمة مختلف

كأي شاعر يتزنر مزمار مأساة شعبه، تطل مفردة الحرب في سطور غسان زقطان، الحرب القبيحة التي أضحت غرفة موحشة في كل بيت فلسطيني. فهي العادة السيئة التي استساغها واستمرأها رغما عنه وبلا قصد منه.

في مجموعته الشعرية “رايات” 1984 يقول في قصيدة “سكون”: “الحرب بيتنا الجديد/ كلبنا الوفي/ حفلة الزواج/ ألفة الخراب/ الحرب ملمس التراب.” يشعر من يقرأ هذا المقطع المؤلم والواقعي أن الحرب أضحت جزءا لا يتجزأ من حياة الفلسطيني، ألفها وألفته.

وفي تصريح خاص لـ”العرب” يقول الشاعر غسان زقطان “الحرب هي جزء من التاريخ الفلسطيني وليست طارئة على هذا التاريخ، يمتلئ التاريخ الفلسطيني بأسماء الغزاة وسيرهم وانحسارهم، من غزوات شعوب البحر وصولا إلى حرب الإبادة في غزة، هي جزء من ثقافة المكان ونفوذه وذاكرته. الحرب لا تأتي وحيدة، تصل بحمولاتها كاملة؛ القتل والتهجير والدمار، تذهب الجيوش وتبقى آثارهم مثل ندوب على هذه الأرض. المنفى هو جزء من حمولة الحرب وهو من مصادر ثقافتها.”

تستدرجك كتابات غسان زقطان برائحة الإبداع النفاذة، تشعر أن الغابة تحكي عن حالها بكل أريحية وصدر منشرح ورائحة المطر وزقزقة العصافير هي الناطق الرسمي باسمها، وأن الليل يسترسل في بث شكواه والوادي يغني حين المساء، والجبل تعب من الوقوف على قدميه ويريد الراحة، وأن التلال قد تعيد تموضعها في مكان آخر، لا شيء ثابتا في ما يكتبه غسان، تحس أن الثابت الوحيد هو إبداعه المتصاعد فقط، فهو يغيّر ترتيب المكان ويعيد رسم الجغرافيا كطفل يعبث بالمكعبات، فيظل القارئ تحت تأثير الصدمة المبتكرة.

وبدوره يرى زقطان، أن أيّ نص لا يتكئ على أيّ مكان هو نص يفتقر إلى الجذور وإلى إمكانية الاستمرار.

تذكرني كتابات غسان الحيوية بأشعار ذي الرمة، بما فيهما من تشابه في ندرة التجربة. فالشاعر الأموي رسم خطا ثالثا له، فركز موهبته الشعرية على وصف المحبوبة أولا وثانيا على وصف الصحراء بطبيعتها ونباتاتها وحيواناتها؛ بعيدا عن المدح والهجاء ومن كانوا يتسابقون في مضمار النقائض كجرير والفرزدق والأخطل والراعي النميري وغيرهم.

يتحدث غسان باسم الطبيعة الوديعة وعنها بما فيها من حيواناتها الأليفة والضارية، هو لسان حال الغيمة والمرتفعات والمنخفضات والسوسنة وحتى الضبع في “سيرة بالفحم” 2003 يسدي النصيحة للضبع مخاطبا: “اتبع الرائحة يا ضبع/ اتبع الرائحة/ اتبعها وحيدا، مرقطا، هائما/ كأنك لا تدري/ واضْحك في وديان وعرة/ يشحب صخرها ويسود. اتبعها يا ضبع/ اتبعْ قتاليك حتى نوافذهم المنخفضة/ واعبْر بسراجيك نومتهم/ وبدل برائحتك أجسادهم/ ادفعهم إلى الليل بلطف حيلتك / دائخين، يتعثرون في أحلامهم/ اتبع الرائحة يا ضبع/ يا أبانا الضاحك في الوديان.”

الشعر والالتزام

أبو مكسيم الذي لم تغادره فلسطين، هي الغافية البريئة في نصوصه، رغم وصوله إلى العالمية باقتدار، يستدعي فلسطين ومعاناة شعبها لتكون دائمة الحضور في كتاباته.

يتحسس القارئ ظلها الشفيف وعبيرها الخفيف على أفئدة محبيها، فحضور فلسطين ليس حضورا قسريا كما يتوهم أيّ قارئ لشاعر فلسطيني يعيش في فلسطين وتسكن شيطانه الشعري، بل هو حضور سلس أقرب للهمس، هنا تحضر الذات الشعرية الإنسانية الشاملة المتجددة العابرة للحدود.

من يغب ويعبّ من شعر غسان يتلذذ به بغض النظر عن قوميته أو ديانته أو معتقداته، ولهذا من الطبيعي بمكان أن يحتفل بشعره الغريب مع الصديق والقصي مع الداني والنائي مع القريب، فالكتابات لا تفتقد بريقها بعد الترجمة بل ربما تضفي لها نجمة أخرى، ليس هذا فقط بل وتكون سببا محوريا لتقلده الجوائز المستحقة، فقصائده المنشورة والمترجمة تعبّر عن كل الجنسيات والثقافات المختلفة على توزعها فوق خارطة العالم.

من كتابة أولى لقصيدة “الغياب في حزمة”، نشر زقطان على صفحته الشخصية مقطعا، يهمس فيه: “تتذكرين يا سارة ليلة وصل الجنود حرش السرو/ عندما كنا صغارا نحفر أسماءنا على جذوع الأشجار/ كان آباؤنا يحفرون أسماءهم على جدران الزنازين/ كما أفعل الآن.”

لغسان زقطان تجربته الشعرية والنثرية والسردية السامقة في الثقافة الفلسطينية والعربية والعالمية، فهل بلغ غايته من الشعر وخط تاج القصائد أو أنشودة الأناشيد أو القصيدة المشتهاة كما يحلو للبعض تسميتها.

يقول زقطان في تصريح خاص لـ”العرب”: “لا أظن أنني كتبت ذلك النص ولا أعتقد أنه موجود، وأعرف أنني لن أكتبه ولن أعثر عليه، هو بالنسبة إليّ المرآة التي تتقدم أمام الكاتب وتسبقه دائما بخطوة، ووهم الشاعر حول نفسه، هو دائما النص التالي الذي لا يحدث، النص الشامل في رأيي هو تجربة الكاتب نفسها، هو مشروعه الذي يكتمل بموته. وهو، كما ترى، شخصي إلى أبعد الحدود.”

في صفحته الشخصية على فيسبوك، يمتع المتابع بصره وعقله بالطبيعة الفلسطينية الخلابة وبالإبداع الفلسطيني السلسبيل بمقاطع شعرية؛ يغترفها غسان من أريج جدول نصوصه القديمة والحديثة والتي يشتغل عليها أيضا. فهو يردم الليل باللغة، ويستيقظ غريبا كأنه وصل للتو من يوم آخر حسب تعبيره.

*عن صحيفة العرب

Post Views24 Total Count

تصفح المواضيع

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Ethical Dimensions in the Digital Age

The Internet is becoming the town square for the global village of tomorrow.

الأكثر قراءة

هاشتاغ

عن زيتون نيوز

زيتون نيوز موقع اعلامي صادر عن مركز رام للدراسات العربية. مختص بالشؤون العربية في كندا، بالاضافة الى الاهتمام بأهم القضايا في الوطن العربي. وهو موقع مهني تشرف عليه الصحفية تغريد سعادة التي تعمل في الصحافة لما يزيد عن عقدين من الزمان.
يقع المكتب الرئيسي في مدينة ادمنتون / ألبرتا. ويعمل على تقديم تغطية شاملة، لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعرب في كندا. 

آخر الأخبار

  • All Posts
  • About Us
  • English News
  • أخبار
  • تحقيقات
  • ثقافة
  • شؤون الجالية
  • شؤون عربية
  • لقاءات
  • مقالات
  • منوعات
    •   Back
    • About us

أقسام

 Zaytoun News © 2024

error: Content is protected !!