تغريد سعادة
ككل الصباحات منذ السابع من اكتوبر 2023، كان صباح امس قد أثقلته أخبار المجازر في غزة، واخبار المجاعة، والمقابر الجماعية التي تبتلع أطفال غزة، ولكن جدت نفسي أقف أمام سجال شعري، دار بين الصديقين الشاعرين الفلسطينيين خالد جمعة وغسان زقطان، حول وظيفة الشعر في زمن حرب الإبادة.
في منشوره على الفيسبوك الذي يتدفق ألما، كتب خالد جمعة إلى غسان زقطان، “يسير الشعر متكئا على رجله اليسرى، فاليمنى، كما تعرف، فيها خلل لغوي غير قابل للإصلاح… هذه المشية العرجاء تنتج نصوصاً لا تضاهى.”
ويضيف جمعه، “الكتابة نفق للهروب ربما، لكنه الهروب إلى المناطق التي يهرب منها الناس… وربما يموت الكاتب في الطريق دون أن يكتشف نهاية النفق، وهذا غالبا ما يحدث.”
في هذه العبارات المكثفة، بدا جمعة كمن يمشي داخل نار لا تتركه، يكتب عن الألم الفلسطيني وهو يتكلم عن الكتابة ذاتها كفعل خطر و مرهق، يشبه السير في نفق بلا نهاية. هو لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يعترف بأن اللغة تخونه أحيانا، وبأن الجوع قد سبق الكلمة، وأن الدم أطاح بقواعد النحو.
يرد غسان زقطان بلغة لا تقل وجعا، لكنها أكثر سكونا، فيكتب: “الشعراء لا يقودون العالم، ولكنهم يسمون الأشياء. ولهذا ائتمنتهم البشرية على مخيلتها المدهشة، وعلى أحلام الناس، وحراسة الينابيع الصافية للحياة.” ويضيف، “لا يصف الشعر الموت، ولا يحمل الأطفال في أكفانهم، لكنه يعيد لهم أسماءهم التي ولدوا فيها.”
زقطان لا ينكر الكارثة، لكنه يقول أن وظيفة الشعر ليست فقط في الصراخ، بل أيضا في إعادة الاعتبار للضحايا، عبر أسمائهم وحكاياتهم وصورهم. هو يؤمن بأن الشعر لا يمنع الموت، لكنه يمنع الاندثار والمحو.
هنا يبرز السؤال الكبير الذي يطرحه السجال، هل يجب على الشاعر أن يكتب عن الحرب، أم أن بإمكانه أن يكتب عن شيء آخر؟ وهل يكون ذلك الآخر “نشازا” حين تقصف غزة وتباد العائلات بالكامل؟
في السجال بين جمعة و زقطان، نرى نبرتين، واحدة لجمعة التي تصرخ من قلب الحريق، وأخرى لزقطان والتي تهمس كي تحرس معنى الحياة وسط الرماد.
كل منهما يمارس دورا شعريا مختلفا، الأول يكتب عن الجوع الذي سبق الكلمات، والثاني يكتب عن الجمال الذي ينهض من تحت الحطام.
القصيدة، في زمن الحرب، ليست خبرا عاجلا، بل أثر عميق يحفظ حكاية الإنسان. وكما كتب زقطان، فالشعر لا يحمل الجثث، لكنه يمنحها أسماءها.
وإذا كان الواقع مسرحية عبثية، كما وصفها جمعة، فالشاعر هو آخر من يبقى في المشهد، لا ليشرح العبث، بل ليحفظ للضحية اسمها وحكايتها، ويمنع أن تتحول إلى مجرد رقم في نشرة أخبار.
الشاعر لا يقود الحرب، لكنه يسمي الدم. وفي زمن الإبادة، هذا وحده فعل بطولي.
