رام الله – تغريد سعادة
في مركز خليل السكاكيني الكائن في حي المصيون في مدينة رام الله، يقع مكتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، والذي ارتبط به لعقد من الزمن منذ عودته من المهجر الى الاراضي الفلسطينية .
مركز السكاكيني مبنى قديم يعود بناؤه الى بدايات العشرينات من القرن الماضي. واصبح مزارا للمثقفين العرب والاجانب، الذين يحرصون على زيارة مكتب درويش، والذي استخدمه ليكون مقر “مجلة الكرمل” التي رأس تحريرها، ، وكان أيضا المكان الذي مارس فيه إبداعه في سنواته الأخيرة.
عند دخولك المكان، تشعر بروح درويش التي تحلق في أرجائه، وتردد في ذهنك بعض الأبيات التي كتبها الراحل عن هذا المكان، حين كان يجلس في حديقته الصغيرة في أيامه الأخيرة، قبل سفره إلى باريس لإجراء العملية الجراحية عام 2008:
“أنا هنا منذ عشر سنوات.
وفي هذا المساء، أجلس في الحديقة الصغيرة على كرسيٍّ من البلاستيك.
أَعُدُّ الدرجات المؤدية إلى غرفتي على الطابق الثاني. إحدى عشرة درجة…
أسترق النظر إلى نافذة غرفتي المفتوحة وأتساءل: هل أنا هناك؟
ويعجبني أن أُدرّج السؤال على الدرج…
في الفصل الأخير، سيبقى كل شيء على حاله…
شجرة التين في الحديقة. الكنيسة اللوثرية في الجهة المقابلة.
يوم الأحد في مكانه من الرزنامة.
والبئر المهجورة والدلو الصدئ…
أما أنا، فلن أكون في غرفتي ولا في الحديقة.”
وقد وضعت هذه الأبيات كاملة على مدخل المركز، إلى جانب صورة كبيرة لدرويش تستقبل الزوار وهم يصعدون درجات الطابق الثاني.
تجهيز المكتب
افتتح مركز خليل السكاكيني عام 1996، وكان مكتب درويش قد جهزه صديقه الحميم ياسر عبد ربه، الذي كان حينها يشغل منصب وزير الثقافة الفلسطينية. عبد ربه واظب على إقناع درويش بالعودة إلى الأراضي الفلسطينية منذ عودة السلطة عام 1993، رغم موقف درويش المعروف من اتفاق أوسلو.
يقول عبد ربه في تصريح خاص إنه جهز مكتب الراحل في مركز السكاكيني قبل عودته، وكذلك شقته في حي الطيرة استعدادا لاستقباله، مؤكدا أن اختيار هذا المبنى العريق لم يكن عشوائيا، بل لما يتمتع به من رمزية ثقافية وبنية تليق بشاعر مثل محمود درويش.
من جهتها، قالت عادلة العايدي، رئيسة المركز السابقة، إن تجهيز المكتب كان بقرار من وزارة الثقافة، قبل أن يعود درويش فعليا إلى رام الله، وتم اختيار غرفة مخصصة له داخل المبنى.
روحه تعلقت بالمكان
عندما تدخل مكتب درويش تشعر بهالته. مكان انيق وبسيط وهادئ جهز بطريقة اخذت بعين الاعتبار شخصية الشاعر الراحل.
لمسات فنية واضحة، ارضية زرقاء هادئة، نوافذ قديمة مرممة، ولوحات تزين الحائط لبعض الرسامين العرب والاجانب بذوق فني متميز. ولوحات غير معلقة تغطي بعض اجزاء النوافذ، ويتواجد عدد منها بجانب مكتبه.
المكتب الذي كان يجلس عليه درويش كان ايضا بسيطا وعاديا، لكن هالة درويش ما زالت تسكنه. ترك أوراقا وملفات، و روزنامة و وردة حمراء جافة، ومجسما من مهرجان القاهرة السادس للإذاعة والتلفزيون عام 2000، وطرودا لم تفتح.
مكتبته تضم كتبا في الثقافة والسياسة والاقتصاد، وحتى كتب المناهج التعليمية الفلسطينية التي كان يحرص على قراءتها، إلى جانب كتب فلسطينية وعربية وغربية، لكتاب مشهورين واخرين وغير معروفين. تنتشر حوله جوائز وتكريمات، ولوحة خلف كرسي درويش للفنان التشكيلي الفلسطيني الكبير حسني رضوان. وبعض الصور القديمة للراحل مع مبدعين ورواد فلسطينيين.
برنامجه في المكتب
الفنان التشكيلي خالد الحوراني، الذي أشرف على الإخراج الفني لمجلة “الكرمل”، قال في حديث خاص إنه عمل مع درويش لأكثر من خمس سنوات، وكان الشاعر يتابع أدق التفاصيل، من المضمون إلى الغلاف.
واضاف الحوراني، رغم أسفاره الكثيرة، كان درويش يحرص على الحضور وقت إصدار كل عدد من المجلة. يدير وقته بعناية وهدوء، يحرر ويتحرك بلا توتر، يستقبل الضيوف بكرم، حتى دون مواعيد.
وتابع الحوراني، كان درويش يحب شجرة التين، ويشرب قهوته الصباحية بعناية. يقرأ المواد، ويكتب الملاحظات، ويستمع لضيوفه في الوقت ذاته.
واضاف عن برنامج درويش في مكتبه، بعد الحضور الصباحي الى المكتب وشرب القهوه التي يحرص جيدا على اعدادها، يبدأ عمله، وينهي الكثير منه قبل ان يذهب للغداء بمعية آخرين. وهو دائما اما مدعوا على الغداء او يدعو الاخرين على الغداء.
وقال، كان يهتم كثيرا بالغلاف، يشارك في اختيار اللوحة والألوان و الخط، ويشرك الجميع في القرار. لم يكن استعلائيا بل منفتحا و ديمقراطيا وعميق الثقافة البصرية والموسيقية.
وقال، تعلمت شخصيا الكثير منه مثلما تعلم منه الأخرين، فالشاعر الراحل كان لماحا، وسريع البديهة، ومتجدد في الحديث العادي والنكتة والتعليق، ويضيف شيئا على الحياة في كل لحظة، ومؤكدا ان درويش مستمع جيد وناقد لاذع ولكنه خجول.
واضاف الحوراني، ان درويش انسان انيق الى اقصى حد وهو يشبه شعره، لا يمكنك التخلص من هالته وحضوره الطاغي على وعيك وانت تتعامل او تتحدث اليه .
اهتمام درويش بزملائه
وتحدث الحوراني عن زيارة قام بها الراحل لبيت الكاتب الراحل حسين البرغوثي وكان حينها مريضا. وقال ذهبنا بسيارتي وكنت انا السائق الى بلدة بيرزيت حيث يسكن البرغوثي، وكان الراحل درويش يجلس الى جانبي. وقلت له كمحاولة مني للتخلص من الارتباك في السياقه في حضرته، شرف كبير وحمل ثقيل انك تسلمني روحك.
وخلال الزيارة حسب الحوراني، دار حوار ظريف بين الجميع اختلط فيه الحديث عن الادب والشعر والسياسه والمرض والكهرباء ليشير الى انسانية الراحل درويش.
كما تحدث عن مشروع جمع بين درويش والمسرحي النرويجي الشهير إبسن، من خلال قصيدة “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”،
وقال الحوراني، كان لي الشرف ان أكون عراب هذه التجربه، وتم التصوير في فلسطين ومصر والنرويج والاردن. وعرض العمل في رام الله وفي اليابان والنرويج والخليج واماكن اخرى.
الحوراني كبقية المقربين من درويش يتحدثون عنه بحب واعجاب وتأثر، ويقول “من حسن حظي انني تعرفت على درويش وعملت معه، ومن حسن حظنا اننا عشنا في زمن عاش فيه درويش.” ومضيفا عملت معه في مجلة الكرمل لكنني لا ازعم انني كنت من أكثر المقربين اليه .
بقى ان نذكر ان مركز خليل السكاكيني، الذي يحمل اسم المفكر الفلسطيني الرائد في التربية والثقافة، أصبح من أبرز الأماكن الثقافية في رام الله، لكن يبقى ما يميزه هو وجود مكتب محمود درويش، ذلك الركن الهادئ الذي لا يزال يروي سيرة شاعر لا يشبه إلا نفسة، الشاعر الذي اختزل فلسطين في سطر، وكان ولا زال في مقدمة الشعراء العالميين.














