تغريد سعادة
يعيش المجتمع الفلسطيني حالة من الجدل حول مفهومي الوطنية والخيانة، وهي حالة زادتها الانقسامات السياسية والمواجهات الداخلية تعقيدا. ولعل أخطر ما نتج عن هذا الجدل هو تسييس هذه المفاهيم، بحيث لم تعد “الوطنية” تعني بالضرورة الولاء لفلسطين، ولا “الخيانة” تقتصر على التآمر ضدها، بل أصبح كلا المصطلحين أداة سياسية تستخدم وفق مصالح بعض الفصائل والأحزاب.
والمفارقة المؤلمة أن بعض المثقفين، الذين يفترض أن يكونوا حراس النقد والوعي، وقعوا في هذا الفخ. فبدلا من أن يواجهوا ثقافة التخوين، ساهموا في ترسيخها، سواء عبر كتاباتهم أو تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وبهذا، أعطوا شرعية اجتماعية لهذا الخطاب، وساعدوا في نشره على نطاق أوسع، حتى بين فئات يفترض أنها الأكثر تحصينا ضده.
ثقافة التخوين ليست وليدة السابع من أكتوبر؛ فهي موجودة منذ بدايات العمل الوطني الفلسطيني في القرن العشرين. فخلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، وجهت اتهامات بالخيانة لزعامات قبلية وعشائرية تعاملت مع الانتداب البريطاني، كما اتهم بعض القادة الثوريين بعضهم البعض بالخيانة بدافع المنافسة على الزعامة.
وفي السبعينيات والثمانينيات، كانت الخلافات بين منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها من جهة، والفصائل المدعومة من دمشق على وجه الخصوص، مناسبة لإطلاق حملات تخوين متبادلة، وصلت أحيانا حد الاغتيالات السياسية.
الخطاب التخويني برز على السطح ثانية بعد السابع من أكتوبر، حيث اعتبر البعض أن عدم الوقوف مع حماس في الحرب الطاحنة التي تستهدف الوجود الفلسطيني كله في القطاع، هو خدمة للاحتلال، دون الالتفات إلى أن الشعار الذي استخدمته حماس هو غطاء سياسي لتكريس سلطتها على ارض غزة، بحيث أصبح انتقاد سياساتها أو ممارساتها يعد خيانة، لا مجرد اختلاف في الرأي. والأخطر أن هذا المنطق لم يقتصر على تيار بعينه؛ فكما استخدمته بعض القوى الإسلامية، فقد تبنته أيضا أطراف في اليسار الفلسطيني او ممن يدعمون خيار المقاومة، التي جعلت من “المقاومة” مبررا لقمع الأصوات النقدية.
إن استمرار استخدام مصطلحات مثل “خائن” أو “عميل” لتصفية الخلافات السياسية، يؤدي إلى إضعاف النسيج الاجتماعي، وإسكات العقول النقدية التي يحتاجها الشعب الفلسطيني في نضاله الطويل. والواجب اليوم هو تحرير هذه المفاهيم من قبضة الفصائل، وجعلها أدوات وعي وبناء، لا أدوات قمع وتخويف، مع سعينا لتحرير الأرض الفلسطينية.
الوطنية لا تعني الولاء لفصيل أو حزب، بل تعني الالتزام بالمصلحة العليا للشعب الفلسطيني، والخيانة لا ينبغي أن تكون تهمة جاهزة تلقى على كل صوت مستقل أو مخالف.
