تغريد سعادة
قد يتناغم فيلم “فلسطين 36” بشكل مدهش مع الأحداث الجارية في غزة اليوم، ليكون صوتا داعما يسلط الضوء على القضية الفلسطينية ويبرز مظلوميتها المستمرة. لا يبدو التاريخ في الفيلم مجرد ذكرى بعيدة، بل كأن أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى في ثلاثينيات القرن العشرين تنسجم مع ما يحدث في الحاضر من مجازر ومعاناة شعبنا الفلسطيني في غزة، وكأن الفيلم صمم خصيصا ليحكي تلك الأحداث منذ بدايتها، ويرصد الصمود والتضحيات التي تتكرر عبر الزمن. إنه العمل المناسب في توقيته، إذ يجمع بين الفن والتاريخ بطريقة تجعل المشاهد يشعر أن النضال الفلسطيني ممتد، وأن كل لحظة من الماضي حاضرة في حاضرنا. يقدم الفيلم شهادات حية عن النساء اللواتي كن في الصفوف الأمامية، وعن الرجال الذين حملوا شعلة الحرية عبر العقود، مؤكدا أن فلسطين قضية مستمرة، وأن النضال والصمود جزء من الهوية الفلسطينية التي لا تنكسر.
تدور أحداث الفيلم خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، التي شكلت مفترق طرق في تاريخ فلسطين الحديث. تبدأ الأحداث في ربيع عام 1936، حيث الشاب يوسف (كريم داود عناية) ابن قرية البسمة، والذي يعمل سائقا لدى زوجين من الطبقة الثرية في القدس هما، أمير (ظافر العابدين) يمتلك النفوذ والمال ويمثل وجه السلطة الاقتصادية والاجتماعية. وزوجته الصحفية خلود (ياسمين المصري) وتكتب باسم مستعار “احمد كنعاني” مع الثورة وضد الاضطهاد البريطاني، وهي تمثل الوجه الفكري والمقاوم في المدينة.
يوسف يمثل الفلاح الفلسطيني البسيط، الذي ورث من أرضه حبها والتزامه بالدفاع عنها، لكنه يجد نفسه مضطرا للتعامل مع الطبقات العليا في القدس التي تتحالف أحيانا مع الاحتلال، أو تحاول استغلال النفوذ لصالحها.
في لحظة مفصلية في حياته تحوله الى ثائر حينما يستشهد والده بعد ان اغتاله المستوطنين اليهود الجدد والذين اقاموا على اراضي اهالي القرية. وفي عزاء والده يعتقل الجيش البريطاني اخيه الصغير.
يوسف ينخرط في الثورة مع خالد (صالح بكري) الذي تعرض هو الاخر لظلم من نوع اخر من قبل البريطانيين كعامل في الميناء، ويصبح شاهدا على مصادرة الأراضي ومواجهات الأهالي للانتداب البريطاني. خلال رحلته، تتقاطع حياة يوسف مع الأب بولس (جلال الطويل)، الكاهن الشرقي من الطقوس الكاثوليكية، وولده كريم (ورد حلو) ماسح الاحذية، الذي يمثل الجيل الجديد المتطلع لمستقبل فلسطين، ويدرك منذ طفولته حجم المسؤولية والتحديات. الاب بولس الذي يناضل بنقل السلاح الى الثوار، ويفقد حياته، وكلا الحادثين كان ابنه كريم الشاهد.
في قرية البسمة التي تشكل قلب الحدث، يظهر الفيلم لوحة اجتماعية متكاملة تجمع بين المسلمين والمسيحيين. حيث تتشابك المصائر وتتقاطع الطبقات الاجتماعية، لتظهر فلسطين كما هي مجتمع مترابط، ومتنوع، ومناضل.
الأب بولس يمثل الصوت المسيحي الذي يساهم في توجيه العائلة وحماية قيمها، بينما كريم يتعلم منذ الصغر معنى التضحية والانتماء للأرض فيختار مصيره كبطل. رباب (يافا بكري) ام عفراء (وردي عيلبوني)، المطلقة وتسكن عند والديها ، وامها هيام عباس، يجسدن صمود المرأة الفلسطينية، اللواتي كن مشاركات في النضال سواء من خلال دعم العائلة او دعم الثوار.
النساء في القرية لهن دور مركزي، إذ يبرز الفيلم كيف أن النضال لم يكن حكرا على الرجال فقط، بل كانت مشاركة نسائية حقيقية من جميع الطبقات، فلاحات، ونساء المدينة، وكلهن ساهمن في رفع الوعي، وحماية الأرض، وتوثيق الأحداث، والتأكيد على الهوية الفلسطينية الجامعة. وهو انتصار للمرأة ويضعها في اطارها الصحيح.
اعتمدت المخرجة المتألقة آن ماري جاسر على لقطات أرشيفية نادرة من ثلاثينيات القرن العشرين لتصوير حياة الفلسطينيين، لكنها عمدت إلى تلوين هذه اللقطات وإضفاء حياة جديدة عليها كما صرحت لوسائل الاعلام، لتجنب أن يصبح الفيلم مجرد تاريخ جامد، ولإظهار أن النضال الفلسطيني لا يزال حيا وملحا، وأن ذاكرة الثورة مستمرة.
في هذا السياق، أظهرت الكاميرا زهرة الحنون ومسماها الاخر شقائق النعمان، الشخصية الرمزية الفلسطينية، في ربيع أحداث ثورة 1936. وزهرة الحنون عند الفلسطينيين تعني الكثير وهي رمزا للشهادة والتضحية.
يصور الفيلم كيف تحولت المقاومة الاقتصادية والسياسية في البداية إلى مواجهة عنيفة مع الانتداب البريطاني، مستعرضا الإضراب العام الطويل، والمظاهرات، والعمليات العسكرية التي اندلعت لاحقا.
الفيلم يمزج بين الميلودراما الشخصية وإعادة تمثيل دقيقة للأحداث التاريخية، مما يخلق تجربة سينمائية تجمع بين الإثارة العاطفية والوعي التاريخي. كل شخصية، يوسف وخلود والأب بولس وكريم، وحتى الشخصيات البريطانية ( جيرمي آيرونز، بيلي هاول، روبرت أرامايو، ووليام كانينغهام)، لها دور محدد في كشف تعقيدات المجتمع الفلسطيني، وطرق التعامل مع الاحتلال، والاختيارات الصعبة التي يواجهها الأفراد في زمن الأزمات.
تنتهي أحداث الفيلم بمزيج من التحدي والأمل، مع أغنية “وعهد الله ما نرحل”، التي تجسد الثبات الفلسطيني والصمود المستمر. الأغنية لا تمثل فقط ختام الفيلم، بل رسالة بأن فلسطين باقية في ذاكرة شعبها، وأن حقوقها على الأرض والهوية مستمرة رغم كل التحديات، وأن النضال لم ينته بعد، والاهم اننا باقون ولن نرحل عن فلسطين.
