سجل في القائمة البريدية

Edit Template

“البلدة التي لم أحدثك عنها”: تشريح الذاكرة بحافة الحلم

يوسف الشايب*

في مجموعته الشعرية “البلدة التي لم أحدّثكِ عنها”، الصادرة حديثًا عن منشورات المتوسط في إيطاليا، لا يدعونا الشاعر الفلسطيني غسان زقطان إلى نزهة في حقول الحنين، بل يقودنا إلى مختبر دقيق لتشريح الذاكرة، حيث الزمان والمكان والهوية مفاهيم سائلة، تتشكل وتتلاشى على حدود الحلم واليقظة.

هذه المجموعة ليست مجرد قصائد عن الفقد، إنّما أيضًا استكشاف عميق لكيفية بقاء الإنسان حيًا داخل غيابه، وكيف يصبح النسيان فعلًا من أفعال المقاومة، والحلم هو الوطن الأكثر واقعية.

من بين أبرز ما يميز هذه المجموعة تحويلها الذاكرة من زمن نفسي منقضٍ إلى جغرافيا مادية يمكن المشي فيها، فالشاعر لا يتذكر فحسب، بل “يوسّع عزلته بالتذكر”، فالماضي له أثاثه الملموس، له “البابُ الذي مشى في حُلمه/ والشبابيكُ التي تقدمت في العمر/ والدرجاتُ العشرُ التي تؤدي إلى الطريق”… هذه الأشياء ليست استعارات جامدة، بل كائنات حيّة تُشارك في السرد، تحمل ثقل الزمن وتتحرك بمنطقها الخاص.

في قصيدة “يمشي وينسى”، يتحرر الشاعر من ثقل الماضي بإسقاطه ماديًا: “سيسقط الماضي على الإسفلتِ مثل حقائب هرمت من التجوال/ عن كتفيه يسقط/ تسقط الأسماء”… هذه المادية تمنح الفقد وزنًا يمكن الشعور به، وفي الوقت ذاته، تمنح التحرر منه خفة مدهشة: “تَثقل الأشياءُ وهو يخفّ/ تَسقط وهو يصعد”.

تتعامل المجموعة ببراعة مع أثر الاقتلاع والمنفى على الهوية، حيث أن الذات هنا ليست كيانًا صلبًا، بل حالة من التشظي والسيولة. في نص “لستُ حبيبكِ”، يقدم الشاعر نفسه كعابر لا يملك اسمًا أو بيتًا إلا في ذاكرة بعيدة ومجهدة: “لديّ اسمٌ لكنهُ من زمن بعيد/ لا أتذكّره جيدًا/ أتذكّر صوت امرأة يحمله بخفّة”… لم يبقَ من الاسم سوى إيقاعه الصوتي، ولم يبقَ من البيت سوى نافذة، فالغياب لا يمحو الأشياء تمامًا، بل يقطّرها إلى جوهرها الحسي.

هذا التماهي مع الآخر يصل ذروته في قصيدة “كأني سواي”، حيث يرى الشاعر “الذي كنته ذات يوم/ يُحدّق في الجالسين ويقرأ أشعاره واقفًا”، فيخلص إلى الهتاف الصامت والمدهش: “كأنّي سواي!”… إنها ليست مجرد أزمة هوية، بل إدراك عميق بأن المنفى يجعلك شاهدًا على حياتك أكثر من كونك مشاركًا فيها.

بالإضافة إلى ثيمات “الذاكرة كجغرافيا”، و”الهوية المتشظية”، تغوص مجموعة “البلدة التي لم أحدثكِ عنها” في مضامين وجودية أخرى تشكل حجر الزاوية في تجربة الشاعر، وتكشف عن فلسفته العميقة تجاه الحرب، والوطن، والحب.
يتعامل زقطان مع الحرب والنصر كمفاهيم مجردة ووهمية، مفككًا هالتها البطولية ليكشف عن جوهرها الإنساني المأساوي.

فـ”النصر” في قصائده ليس غاية، أو احتفالًا، بل هو كيان شبحي ومؤلم: “أيها النصر/ أيها الصنم الذي ينزف كل ليلة على عتبات بيوتنا/ ويترك دمه في أحلامنا”… هذا النصر “ضبع”، و”شبح يسحب ظله”، لا يجلب الخلاص، بل يغرس الموت في حديقة الأمل.

تتجلى هذه الرؤية بأبهى صورها في قصيدة “نام الجنود في حقل البطيخ”… هنا، يعود الجنود من حرب لا يمكن تعريفها، فهم لا يعرفون إن انتصروا، أم خسروا. أجسادهم المنهكة تماهت مع الطبيعة، حتى أصبح من الصعب تمييز رؤوسهم عن ثمار البطيخ.

ويبني زقطان عالمًا شعريًا لا ينفصل فيه المقدس عن اليومي، بل يتجذر فيه… الأسطورة هنا ليست في الحكايات الكبرى، بل في الطقوس الصغيرة التي يمارسها أناس عاديون لمنح حياتهم معنى.

قصيدة “نار هيلانة”، مثال ساطع على ذلك، فـ”هيلانة”، التي تشعل نارها الصغيرة احتفالًا بعيد الصليب، لا تمارس طقسًا دينيًا فحسب، إنّما تنسج من خلاله علاقة عميقة بين الطبيعة (المطر، الزيتون)، والذاكرة (زوجها الغائب الذي “تأتي به نار الصليب”)، ودورة الزمن.

هذا العالم مسكون أيضًا بكائنات الأسطورة الشعبية، فالشاعر يحذر الفتاة الصغيرة: “لا تذهبي في الليل إلى الأحراش”، لأنها ستجد هناك “الجنيّات وهن يجمعن القلق”، و”حطّابات الكوابيس”، و”العاشقات المقتولات”.

بهذه الطريقة، يحوّل زقطان الجغرافيا الفلسطينية من مجرد خريطة سياسية إلى أرض أسطورية حيّة، لها كائناتها وقوانينها الخاصة، ويصبح التجذر في المكان ليس فعلًا سياسيًا فحسب، إنّما انغماس في روحه المسكونة بالأسرار والجمال والخطر.
شكليًا، يتميز زقطان بقدرته على بث حياة سوريالية في أكثر الأشياء اليومية والعادية، مُتّبِعًا في ذلك منطق الحلم لا الواقع، فالحافلة في قصيدته لا تتحرك، بل “الركّاب يواصلون الاهتزاز في الحافلة الواقفة منذ زمن طويل”، في صورة عبثية وموجعة ترمز إلى رحلة المنفى العالقة بين نقطتي انطلاق ووصول أبديتين.

في قصيدة “التماثيل والأبواب”، يصوّر مدينة مغلقة لا يهتدي سكانها لأبوابها، بينما “التماثيل تواصل تسلّق الأدراج”، وتحدق من النوافذ… هذه الصور الكابوسية ليست مجرد فانتازيا، بل هي تجسيد فني دقيق للشعور بالاختناق داخل تاريخ مصنوع من رموز ميتة (التماثيل) يطغى على حياة الناس الحقيقية.


وإلى جانب قدرته على بث حياة سوريالية في المشاهد اليومية، حوّل زقطان القصيدة إلى بنية معمارية للحلم والذاكرة، عبر لغة مقتصدة ومكثفة، حيث تُبنى القصيدة من جمل قصيرة ومباشرة ظاهريًا، لكنها مشحونة بطاقة إيحائية هائلة.

هو لا يصف، بل يشير، كما في نص “لا أتذكر النهر”، حيث يقوم الشاعر بتفكيك مشهد كامل عبر عملية محو تدريجي: “لا أتذكر النهر/ الجسر قليلًا (…) لكن النهر اختفى/ الماء أولًا ثم الضفاف (…) الطائر فوق الكنيسة/ خرج من الصورة”… هذا الأسلوب البرقي لا يعبر عن ضعف الذاكرة بقدر ما هو تقنية فنية لإظهار كيف يتآكل الماضي، تاركًا وراءه شظايا حسيّة فقط: “ملمس المعدن البارد للحاجز وثلاثة أشخاص غرباء”… هنا يترك للقارئ مهمة ملء الفراغات، ما يجعل تجربة القراءة فعل مشاركة في إعادة بناء المشهد المفقود.

ويستخدم زقطان التكرار ليس كحيلة بلاغية، بل كطقس استحضار صوتي يشبه التراتيل أو التعاويذ، بهدف تعميق الحالة الشعورية وخلق إيقاع داخلي للقصيدة يغني عن الوزن التقليدي، كما في قصيدة “يا جدة الناس واللاجئين”، حيث تتكرر اللازمة “خفيف هو اسمك”، كأنها صلاة، وكل تكرار يضيف طبقة جديدة من المعنى للاسم، فهو ليس مجرد هوية، بل “نجمة للطريق”، و”نافذة للغريب” .

تتحرك القصائد بمنطق الحلم، حيث تنهار الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل… يبدأ الشاعر قصيدته غالبًا في لحظة تأمل حاضرة، ثم ينزلق بسلاسة إلى مشهد من الماضي البعيد، من دون تمهيد، أو فواصل واضحة، تمامًا كما يحدث في الأحلام… “أنتَ هناك في زمن بعيدٍ تجمع الدرّاق”… هذه الجملة تقفز بالقارئ مباشرة إلى قلب الماضي، وهذا الانصهار بين الأزمنة سمة محورية للشكل الشعري في المجموعة، ما يمنح قصائده طابعها الحلمي والمراوغ.

يستخدم زقطان لغة حسية نافذة تجعل من المجرد ملموسًا، فالحنين ليس شعورًا، بل هو “طعمُ العناق”، والرغبة لها “أساور توسوس في النصوص القصيرة”… وفي واحدة من أروع صور المجموعة، تتحول لحظة عادية في سوق الخضار إلى تلك “القبلة، التي لم تحدث، ستعيش محفوظة مثل حِرز في المجاز المدهش للأعشاب”، مؤكدًا أن ما لم يحدث قد يكون أحيانًا أكثر حقيقة وخلودًا مما حدث.

ما يميز هذه المجموعة بشكل خاص هو وعيها الذاتي العالي بفعل الكتابة الشعرية، فالشاعر لا يكتب القصيدة فحسب، بل يدعونا لمشاهدته وهو يكتبها ويراجعها، ففي نص “رسالة”، يقارن كتابته برسائل كافكا، ومارينا تسفيتايفا، وإنغبورغ باخمان، واضعًا نصه في حوار مباشر مع عمالقة الأدب العالمي، معترفًا بهشاشة وشغف عملية الخلق.

الأكثر كشفًا، “ملحق وإعادات”، حيث القلق من مفردة واحدة (“ثنية”) في قصيدة قديمة، وكيف عثر بعد سنوات على الكلمة الصحيحة (“طيّة”)، التي أغلقت الجرح النصّي: “توقفت اليد عن طرق الباب”.

هذا الكشف عن “المطبخ الشعري” فعل نادر من الصدق الفني، يوضح أن القصيدة عند زقطان كائن حي، ينمو ويتنفس ويواصل البحث عن اكتماله حتى بعد نشره… إنه الميتا ـ نص الذي يجعل من القارئ شريكًا في القلق الإبداعي.

“البلدة التي لم أحدثكِ عنها” ليست مجموعة شعرية تقرأها وتتركها، بل حالة وعي تسكنك. يميزها تجاوزها الخطاب المباشر والمأساة الصاخبة إلى مناطق أكثر هدوءًا وعمقًا، حيث الصراع الحقيقي يدور داخل النفس، ضد الزمن والنسيان وتشظي الهوية.

فنيًا، هي شهادة على إبداع شاعر متميّز أتقن أدواته، وصار قادرًا على تحويل أبسط الأشياء إلى رموز كونية، وكذلك صار قادرًا على جعل الحلم والغياب بمثابة مادة خام لبناء وطن متخيل، يبدو أكثر صلابة وصدقًا من أي واقع.

  • عن ضفة ثالثة
Post Views45 Total Count

تصفح المواضيع

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Ethical Dimensions in the Digital Age

The Internet is becoming the town square for the global village of tomorrow.

الأكثر قراءة

هاشتاغ

عن زيتون نيوز

زيتون نيوز موقع اعلامي صادر عن مركز رام للدراسات العربية. مختص بالشؤون العربية في كندا، بالاضافة الى الاهتمام بأهم القضايا في الوطن العربي. وهو موقع مهني تشرف عليه الصحفية تغريد سعادة التي تعمل في الصحافة لما يزيد عن عقدين من الزمان.
يقع المكتب الرئيسي في مدينة ادمنتون / ألبرتا. ويعمل على تقديم تغطية شاملة، لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعرب في كندا. 

آخر الأخبار

  • All Posts
  • About Us
  • English News
  • أخبار
  • تحقيقات
  • ثقافة
  • شؤون الجالية
  • شؤون عربية
  • لقاءات
  • مقالات
  • منوعات
    •   Back
    • About us
    •   Back
    • Art and Cinema
    • Interviews

أقسام

 Zaytoun News © 2024

error: Content is protected !!